تأسیس الأصل فی التعبّد بالظنون
ولنقدّم اُموراً :
الأوّل : اعلم أنّ للحجّیة معنیین :
أحدهما : الوسطیة فی الإثبات والطریقیة إلی الواقع . وبهذا المعنی تطلق الحجّة علی المعلومات التصدیقیة الموصلة إلی المجهولات ، وعلی الأمارات العقلائیة أو الشرعیة باعتبار کونها برهاناً عقلائیاً أو شرعیاً علی الواقع ، لا باعتبار صیرورتها بعناوینها وسطاً فی الإثبات .
ثانیهما : الغلبة علی الخصم وقاطعیة العـذر . وإطلاق الحجّـة بهذا المعنی علی الأمارات أنسب .
ثمّ إنّ الحجّیة بالمعنی الأوّل تستلزم وجوداً وعدماً جواز الانتساب إلی الشارع وعدمه ؛ إذ لیس للطریقیة والوسطیة فی الإثبات معنی سوی ذلک . وأمّا بالمعنی الثانی فلا تلازم بینهما أصلاً ؛ فإنّ الظـنّ علی الحکومـة حجّـة بالمعنی الثانی ؛ لکونه قاطعاً للعذر ، ومع ذلک لا یصحّ معه الانتساب إلیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 401 الثانی : ربّما وقع الخلط بین عنوانی التشریع والقول بغیر علم ؛ فاستدلّ بما یدلّ علی حرمة القول بغیر علم علی حرمة التشریع ، مع أنّ بینهما فرقاً ؛ فإنّ التشریع عبارة عن إدخال ما لیس فی الشریعة فیها ، وإن شئت قلت : تغییر القوانین الإلهیة والأحکام الإلهیة بإدخال ما لیس فی الدین فیه وإخراج ما هو منه عنه ، وهذا ما یسمّی بدعة ، فلا کلام فی حرمته ومبغوضیته .
وأمّا تفسیر التشریع بالتعبّد بما لا یعلم جواز التعبّد به من قبل الشارع فإن اُرید منه التعبّد الحقیقی جدّاً فلا شکّ أنّه أمر غیر ممکن خارج عن اختیار المکلّف ؛ إذ کیف یمکن التعبّد الحقیقی بما لا یعلم أنّه عبادی ؟ فإنّ الالتزامات النفسانیة لیست واقعة تحت اختیار النفس حتّی توجدها فی أیّ وقت شاء .
وإن اُریـد منه إسناد ما لم یعلم کونه مـن الشریعـة إلیها فهو أمـر ممکن لکنّه غیر التشریع ، بل عنوان آخـر محـرّم أیضاً . ویـدلّ علی حرمتـه ما ورد مـن حرمـة القول بغیر علم ، وما ورد مـن أدلّة حرمـة الإفتاء والقضاء بغیر علم . علی إشکال فی دلالة القسم الثانی بلحـاظ أنّ الحکم إنشاء لا إسناد إلی الشرع .
وممّا ذکرنـا یظهر الخلط فیما أفـاده بعض الأعـاظم قدس سره ؛ حیث جعل العنوانین واحداً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 402 الثالث : الظاهر أنّ للتشریع واقعاً قد یصیبه المکلّف وقد لا یصیبه ؛ فإنّ تغییر القوانین الشرعیة کسائر المحرّمات مبغوض واقعی قد یتعلّق بها العلم وقد لا یتعلّق ، فهو مبغوض بمناطها الواقعی ، کما أنّ القول بغیر علم وإسناد شیء إلی الشارع بلا حجّة مبغوض بما له من المناط .
وما أفاده بعض أعاظم العصر قدس سره من أنّه لیس للتشریع واقع یمکن أن یصیبه أو لا یصیبه ، بل واقع التشریع هو إسناد الشیء إلی الشارع مع عدم العلم بتشریعه إیّاه ؛ سواء علم المکلّف بالعدم أو ظنّ أو شکّ ، وسواء کان فی الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم یکن .
غیر واضح ؛ إذ قد عرفت : أنّ التشریع غیر الإسناد من غیر علم ولا حجّة ، وأنّ الأوّل عبارة عن تغییر القوانین الإلهیة والتلاعب بأحکام الله تعالی ، وهو من العناوین الواقعیة متّصفة بالقبح کالظلم ، بل هو منه ، فلو جهل المکلّف به لما اتّصف بالقبح الفاعلی ، مع کون الفعل حراماً واقعاً .
الرابع : أنّ التشریـع ـ بأیّ معنی فسّر ـ لا یسری قبحـه إلی الفعل الخارجی ؛ إذ لا وجه لتسریة القبح مـن عنوان إلی عنوان آخـر مغایر معه ، کما هـو المطّرد فـی الأحکام العقلیة . وعلی ذلک فعلی القول بالملازمة فلا نستکشف من کون التشریع قبیحاً عقلاً إلاّ حرمة ذلک العنوان شرعاً ، لا حرمة عنوان آخر مغایر معه ، وهذا واضح جدّاً .
فما أفاده بعض الأعاظم قدس سره من إمکان کون القصد والداعی من الجهات والعناوین المغیّرة لجهة حسن العمل وقبحه ، فیکون التعبّد بعمل لا یعلم التعبّد به من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 403 الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو علیه . ویشهد علی ذلک قوله علیه السلام : «رجل قضی بالحقّ وهو لا یعلم» ؛ لدلالته علی حرمة القضاء واستحقاق العقوبة علیه ، فیدلّ علی حرمة نفس العمل .
غیر واضح جدّاً ؛ فإنّ إمکان کون القصد من الجهات المغیّرة لا یدلّ علی فعلیة ما ادّعاه من النتیجة ؛ إذ هی تابعة لأخسّ المقدّمتین .
أضف إلیه : أنّ کون بعض العناوین مغیّراً فما الدلیل علی أنّ هذه العناوین کذلک ؟ فالإشکال فی کلّیة ما ادّعاه . وما استدلّ من الروایة ضعیف ؛ فإنّ حرمة القضاء ممّا لا کلام فیه ، وإنّما الکلام فی حرمة العمل . إذا عرفت ذلک فنقول :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 404