الاستدلال علی حجّیة قول الثقة بالأخبار
قد استدلّ الأصحاب بالروایات الکثیرة الواردة التی جمعها الشیخ الجلیل الحرّ العاملی فی کتاب القضاء من «وسائله» ، ولا حاجة لنا فی نقلها وسردها فی المقام . وعلی القارئ الکریم ملاحظة أبواب القضاء من ذاک الکتاب ، لعلّه یقف علی أزید ممّا وقف علیه غیره .
ولکن نعطف نظره إلی نکتة مرّت الإشارة إلیه غیر مرّة ؛ وهو أنّا لاحظنا ما وقفنا علیه من الأخبار واحداً بعد واحد ، وأمعنا النظر فی مفادها ، فلم نجد فیها ما یدلّ علی التأسیس ، وأنّ الشارع قد جعل الخبر الواحد أو قول الثقة حجّة من عنده ، بل یظهر من کثیرها : أنّ حجّیة خبر الثقة کان أمراً مسلّماً عندهم ، وکانت الغایة فی هذه الأخبار تشخیص الثقة عن غیرها ، وأنّ فلاناً هل یجوز الأخذ منه لوثاقته أو لا یجوز .
وإن شئت قلت : إنّ الأخبار فی مقام بیان الصغری ؛ وهو تعیین الثقة ، وأنّ فلاناً ثقة أو غیر ثقة ، وأمّا الکبری ؛ وهو حجّیة قول الثقة فقد کانت أمراً ارتکازیاً
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 468 لهم ، وکان بناء العقلاء علی العمل به .
وبذلک یظهر : أنّ ما استدلّوا به من الکتاب والسنّة ما یدلّ بظاهرها علی حجّیة قول الثقة فهی محمولة علی الأمر العقلائی الدائر بینهم ، وکان المرمی إمضاء عملهم ، لا تأسیس أمر لهم .
وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی ، وتبعه شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ من أنّ لازم العلم إجمالاً بتواترها الإجمالی وإن کان هو الأخذ بأخصّ مضامین تلک الأخبار ـ وهو حجّیة قول العدل الذی شهد اثنان من أهل الفنّ بعدالته ـ إلاّ أنّه یوجد فی تلک الأخبار خبر یکون جامعاً لعامّة الشرائط الحجّیة ، ویکون مفاده حجّیة قول مطلق الثقة ، فیتعدّی منه إلی الأعمّ .
فغیر صحیح ؛ إذ لا أظنّ أن یکون بین الأخبار فی الباب خبر یکون جامعاً لعامّة الشرائط الحجّیة التی قد قلنا بها من باب الأخذ بالقدر المتیقّن ، ومع ذلک یکون من حیث المفاد أعمّ ؛ أی دالاًّ علی حجّیة قول مطلق الثقة ، فإنّه مجرّد فرض .
فإنّ القدر المتیقّن من تلک الأخبار هو الخبر الحاکی من الإمام بلا واسطة ، مع کون الراوی من الفقهاء نظراء زرارة ومحمّد بن مسلم وأبی بصیر ، ومعلوم أنّه لیس بینها خبر جامع لتلک الشرائط دالّ علی حجّیة قول مطلق الثقة .
وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر من أنّ أغلب الطوائف وإن لم یکن متواتراً إلاّ أنّه لا إشکال فی أنّ مجموعها متواترة إجمالاً ؛ للعلم بصدور بعضها عنهم ـ صلوات الله علیهم ـ ففیه : أنّ العلم بصدور البعض لا یمکن الاستدلال به علی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 469 حجّیة قول الثقة مطلقاً ؛ إذ من المحتمل أن یکون الصادر منهم ما یدلّ علی حجّیة قول الثقة إذا کان جامعاً لشرائط خاصّة .
وبالجملـة : العلم بصدور البعض لا یکفی فی استنتاج الأعمّ . علی أنّـه یمکن منع التواتر ؛ لأنّها مع کثرتها منقولة عـن عـدّة کتب خاصّـة لا تبلغ حـدّ التواتـر . واشترطـوا فی تحقّق التواتر کـون الطبقات عامّتها متواترة ، والتواتر فی جمیعها ممنوع .
نعم ، هاهنا وجـه آخر لإثبات حجّیـة مطلق قول الثقة ، وحاصله : أنّه إن ثبت حال السیرة العقلائیة ، وظهر أنّ بناء العقلاء علی العمل بمطلق قول الثقة فهو ، وإلاّ فالقدر المتیقّن من السیرة هو بناؤهم علی حجّیـة الخبر العالی السند الذی یکون رواته کلّهم ثقات عدول ، قد زکّاهم جمع من العدول ، ولا إشکال فی أنّه یوجد بین تلک الروایات ما یکون جامعاً لتلک الشرائط ، مع کونه دالاًّ علی حجّیة قول الثقة مطلقاً .
فقد روی الکلینی عن محمّد بن عبدالله الحمیری ومحمّد بن یحیی جمیعاً عن عبدالله بن جعفر الحمیری عن أحمد بن إسحاق عن أبی الحسن علیه السلام قال : سألته وقلت : من اُعامل وعمّن آخذ ، وقول من أقبل ؟
فقال : «العمری ثقتی ، فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی ، وما قال لک عنّی فعنّی یقول ، فاسمع لـه وأطع ؛ فإنّه الثقـة المأمـون» . ونحـوها صحیحته الاُخـری .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 470 وهذه الروایة مع علوّها رواته کلّهم من المشائخ العظام ممّن اتّفق الأصحاب علی العمل بروایاتهم ، فتلک الروایة لا إشکال فی شمول السیرة العقلائیة علیها ، فإذا شملتها نتعدّی حسب مضمونها إلی کلّ ثقة مأمون .
لا یقال : لا یمکن التعدّی منها إلاّ إلی نظراء العمری وابنه ، الذین هم من الأجلاّء الثقات ، ولا یمکن منه التعدّی إلی مطلق الثقة .
لأنّا نقول : إنّ التعلیل بأنّه الثقة المأمون یرفع هذا الاحتمال ؛ فإنّ التعلیل بمطلق الوثاقة والمأمونیة ، لا الوثاقة المختصّة لأضراب العمری وابنه ، کما أنّ التعلیل فی قول القائل : «لا تشرب الخمر ؛ لأنّه مسکر» ظاهر فی أنّ تمام العلّة ذات الإسکار ، لا الإسکار المختصّ بالخمر .
ثمّ هذه الروایة وأمثالها وإن کان لسانه عاریاً عن جعل الحجّیة أو تتمیم الکشف أو جعل الطریقیة إلاّ أنّه یظهر منه أنّ العمل بقول الثقة المأمون کان رائجاً بین الأصحاب ، بل بین العقلاء ؛ ولذا جاء أخذ الحدیث من العمری وابنه معلّلاً بأنّه الثقة المأمون . وبذلک یظهر الفرق بین مقالنا وبین ما ذکره المحقّق الخراسانی ، فراجع لما نقلناه عنه .
نعم ، لو قلنا بعدم استفادة إیجاب العمل أو جعل الحجّیة وأمثالها منها یشکل التمسّک بها لکشف حال السیرة ؛ لعدم الکشف القطعی ـ وهو واضح ـ وعدم کونه حکماً عملیاً ، فلا معنی للتعبّد به .
وکیف کان : فالخطب سهل بعد إحـراز بناء العقلاء علی الاحتجاج بخبـر کلّ ثقـة .
ثمّ بناءً علی إنکار بنائهم فالروایة ونحوها تدلّ علی التشریع ولزوم العمل بقوله ، وما ذکرناه من عدم الدلالة علی التأسیس لأجل إحراز بناء العقلاء ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 471