فیما استدلّ به للقول بالامتناع
استدلّ القائلون بالامتناع بوجوه ؛ أسدّها ماذکره المحقّق الخراسانی ، ورتّبه علی مقدّمات ؛ عمدتها هو کون الأحکام الخمسة متضادّة فی مقام فعلیتها وبلوغها إلی مرتبة البعث والزجر ؛ لعدم المنافاة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیها .
وأنت خبیر : بأنّ ما أحکمناه کافٍ فی إثبات المطلوب ؛ سواء ثبت التضادّ بین الأحکام أم لا .
ولمّا انجرّ الکلام إلی هنا لا بأس بتوضیح الحال فیها ، فنقول :
عُرّف الضدّان بأ نّهما أمران وجودیان لا یتوقّف تعقّل أحدهما علی الآخر ، یتعاقبان علی موضوع واحـد بینهما غایة الخلاف ، وقالوا : إنّ من شرط التضادّ أن یکون الأنواع الأخیرة التی توصف به داخلة تحت جنس واحد قریب ، فلا یکون بین الأجناس ولا بین صنفین من نوع واحد ولا شخصین منه تضادّ . وما ذکرناه هو المختار عند الأکابر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 50 فالتعریف المذکور لا ینطبق علی الأحکام :
أمّا علی القول المختار بأنّ الأحکام عبارة ـ مثلاً ـ عن البعث والزجر المنشأیـن بالآلات والأدوات فواضح جـدّاً ؛ لأنّ البعث والزجـر بالهیئـة الدالّـة علیهما إنّما هـو بالمواضعة والاعتبار ، وهما لیسا مـن الاُمـور الوجودیـة الحالّـة فی موضوعها الخارجی ، بل اُمـور اعتباریـة عقلائیة ، وهم یرون البعث بالهیئـة مکـان البعث التکوینی ، لکـن بحسب الوضع والاعتبار القائمین بنفس المعتبر ؛ قیاماً صدوریاً .
وأمّا علی القول بکونها عبارة عن الإرادات أو عن الإرادات المظهرة ـ کما اختاره بعض محقّقی العصر رحمه الله ، وقد أوعزنا إلی دفعه سابقاً ـ فکذلک أیضاً ؛ لأنّ الشرط ـ کما أسمعناک ـ کون الأمرین الوجودیین داخلین تحت جنس قریب . وعلیه لابدّ أن یکونا نوعین مستقلّین ، مع أنّ إرادة البعث والزجر داخلتین تحت نوع واحد ، ومعه کیف تصیران متضادّتین ؟
فإن قلت : إنّ مبدأ الأمر ـ وجوبیاً أو ندبیاً ـ وإن کان هو إرادة البعث ، علی ما هو التحقیق من أنّ الإرادة التشریعیة لا تتعلّق إلاّ بالبعث والتحریک ، لا بصدور الفعل من الغیر ، إلاّ أنّ مبدأ النهی هو الکراهة ، وهما لیستا من نوع واحد .
قلت : الکراهـة لیست بمبدأ قریب للنهی ، بل المبدأ القریب هو إرادة الزجر ؛ وذلک لأنّ الکراهة والاستقباح فی مقابل الشوق والاستحسان ، فکما أنّ اشتیاق صدور شیء من المکلّف ربّما یصیر مبدأ لحدوث إرادة البعث نحو المطلوب ، کذلک
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 51 الکراهة وتنفّر الطبع عنه ربّما تصیر مبدأ لإرادة الزجر التشریعی عن العمل .
فظهر : أنّ ما یقابل الاشتیاق هو الکراهة ، وأ نّهما من مبادئ الإرادة التشریعیة أحیاناً ، والمبدأ القریب للنهی هو نفس الإرادة لا الاستکراه ، والإرادتان من نوع واحد ، فاختلّ ماهو الشرط للتضادّ .
وببیان أوضح : أنّ الإرادات لیست أنواعاً مختلفة تحت جنس قریب ؛ أمّا الـواجب والمستحبّ وکـذا الحـرام والمکروه فواضح ؛ لأنّ الإرادة الوجوبیـة والاستحبابیة مشترکتان فی حقیقة الإرادة ومتمیّزتان بالشدّة والضعف ، فإذا أدرک المولی مصلحة ملزمة تتعلّق به الإرادة الشدیدة وینتزع منها الوجوب ، أو أدرک مصلحة غیر ملزمة تتعلّق به الإرادة لا بنحو الشدّة ، بل علی نحو یستظهر منها الترخیص فی الترک ، وینتزع منها الاستحباب .
وقس علیهما الحـرام والمکروه ؛ فإنّ المبدأ القریب للنهی ـ تحریماً کان أو تنزیهاً ـ إنّما هو الإرادة فیما إذا أدرک أنّ فی الفعل مفسدة ، فیتوصّل لسدّ بابها بزجـر العبد تشریعاً ، فیرید الزجر التشریعی فیزجرهم .
فإرادة الزجر المظهرة إذا کانت إلزامیة ینتزع منها التحریم ، وإن کانت غیر الزامیة ینتزع منها الکراهة .
فتلخّص : أنّ ماهو المبدأ الأخیر هو الإرادة ، وعلی القول بانتزاع الأحکام من الإرادات المظهرة لا یتفاوت فیه الوجوب وغیره ، وقد عرفت أنّ الإرادة هی المبدأ القریب للإظهار ، فلا تکون الأحکام أنواعاً مختلفة مندرجة تحت جنس قریب ، علی ما هو المناط فی الضدّین .
ثمّ إنّ عدم اجتماع الوجوب والحرمة ، لا یعدّ دلیلاً علی اندراجهما تحت
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 52 التضادّ ، لأنّ عدم الاجتماع أعمّ منه سواء أقلنا بأنّ الأحکام اُمور اعتباریة أم هی إرادات مظهرة :
أمّا علی الأوّل فعدم الاجتماع ـ مع تسلیم إمکان الجعل ـ هو لغویة جعل حکمین مختلفین فی شیء واحد فی زمن واحد ، لا یمکن امتثالهما.
بل یمکن أن یقال : إنّ الوجه، هو امتناع الجعل الجدّی عندئذٍ ؛ لأنّ الغایة من جعل الحکم هو انبعاث العبد من الإنشاء ، ولازم الانبعاث من الأمر هو الفعل ، ولازم الانبعاث من النهی هو الترک ، وهما لا یجتمعان.
وکـذا علی القول بکونها عبارة عن الإرادات ؛ لامتناع تعلّق الإرادة بالبعث إلی العمل والزجر عـن الفعل ، کتعلّق الإرادة بالطیـران إلی الهواء ، فعدم الاجتماع أعمّ من التضادّ.
وأیضاً لو اعتبرنا فی تحقّق التضادّ کون الأمرین ممّا بینهما غایة الخلاف لا یتحقّق التضادّ فی جمیع الأحکام ؛ لأنّ الوجوب والاستحباب لیس بینهما غایة الخلاف ، وقس علیه الحرمة والکراهة . بل تخرج الأحکام عن تقابل التضـادّ بقولنا یتعاقبان علی موضوع واحد ؛ لأنّ المراد من الموضوع هو الموضوع الشخصی لا الماهیة النوعیة ، وقد مرّ أنّ متعلّقاتها لا یمکن أن یکون الموجود الخارجی ، فلا معنی للتعاقب وعـدم الاجتماع فیه .
فظهـر : أنّ حدیث التضادّ بین الأحکام ـ وإن اشتهر بین المتأخّرین ـ ممّا لا أساس له ، کما علیه بعض أهل التحقیق قدّس الله سرّه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 53