حول کلام المحقّق النائینی فی عدم شمول الآیة للمعاطاة
ثمّ إنّه قد یتوهّم عدم شمول الآیة لمثل المعاطاة؛ لأنّ العقد هو الربط المشدّد، أو العهد الأکید، أو أوکد العهود، وعلی أیّ حال یعتبر فی معناه التوکید، کما مضی فی عبارة «المجمع» ولا توکید فی المعاطاة؛ لعدم اللفظ فیها، وهو الباعث للتوکید.
قال النائینی رحمه الله: «لا إشکال فی عدم جریان الآیة فی العقود غیر اللفظیة؛ لأنّ اللزوم إمّا تعبّدی، أو حقّی مالکی، والأوّل کما فی النکاح، وهبة ذی الرحم، والثانی کما فی البیع، والصلح، ونحوهما؛ فإنّ اللزوم فیها إنّما ینشأ من نفس قول البیّعین من دون تعبّد فیه أصلاً. ووجه ذلک أ نّه بقوله: «بعت» ینشئ أمرین:
1 ـ تبدیل ماله بمال الآخر.
2 ـ التزامه بما أنشأ.
فیستفاد من نفس الصیغة اللزوم التزاماً، والشارع أمضی ذلک اللزوم، ولذا قلنا: إنّ اللزوم فیه لیس حکماً تعبّدیاً محضاً.
ولیس ما ذکرناه فی المعاطاة؛ لعدم دلالة التزامیة فی الفعل، فإنّ المتکفّل لدلالة الالتزام إنّما هو اللفظ لا الفعل.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 122 نعم، قد یفهم التوکید وهذا المعنی الالتزامی بشیء آخر غیر اللفظ وغیر التعاطی، کتصفیق البیّعین».
أقول: التزامهما بالوفاء الکامل واللزوم، لیس من جهة معنی اللفظ التزاماً، بل من جهة بنائهما علیه مقارناً للّفظ فی ذلک؛ فإنّ بناء العقلاء علی الوفاء واللزوم.
ثمّ إنّ دلالة الالتزام لا تختصّ باللفظ، بل التحقیق أنّ دلالة الالتزام ـ بل التضمّن أیضاً ـ لیست دلالة لفظیة، وأنّ الدلالة اللفظیة هی المطابقیة فقط، فالالتزام والتضمّن یحصلان مبنتون حضور نفس المعنی المطابقی فی الذهن بأیّ وجه حصل.
ثمّ إنّه قال فی ذیل کلامه: «إنّ التصفیق یدلّ علی ذلک المعنی الالتزامی» فیلزمه التفصیل بین معاطاة فیها التصفیق، وما لیس فیها.
وأمّا دعواه التوکید فی معنی العقد، فنقول: لو کان فی معنی العقد توکید وشدّ، لم یشمل البیع بالصیغة أیضاً؛ لعدم توکید فی اللفظ، فهو مختصّ بما فیه توکید من القسم، والعتق، والطلاق، کما کان متداولاً فی الجاهلیة، وأمّا العقود المعاملیة فلیس فیها توکید، واللزوم فیها حکم شرعی، لا عهد توکیدی، وإلاّ یلزم الدور فی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» لصیرورة معناه: أوفوا بالعقود اللازمة، وبالجملة: اللفظ لا یحصّل التوکید.
ثمّ إنّ اعتبار العقد إنّما هو فی المعاملة المسبّبیة، وتوضیحه أ نّا قلنا: إنّ إطلاق «العقد» علی المعاملات باستعارة من بعض المعانی اللغویّة، وقلنا: الظاهر هو
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 123 الربط، ونقول الآن: مصحّح الاستعارة إنّما هو فی المسبّب؛ أی نفس المبادلة بین المالین، فإنّها التی یقع فیها الارتباط؛ أی ارتباط التبدیلین: تبدیل البائع، وتبدیل المشتری، واللفظ إنّما کان سببه. ولا فرق من جهة السبب بین کونه لفظاً أو فعلاً بعد کون اعتبار العقد فی المسبّب.
مع أ نّا لا نسلّم أنّ معنی «العقد» هو الربط المشدّد، أو العهد المؤکَّد، وقد سبق جهة أخذ العهد فی معناه.
فلنلاحظ اللّغة، هل یعتبر فی معناه الشدّة والتوکید حتّی یلزم فی العقد الاستعاری أیضاً التوکید والشدّة؟
فنقول: ظاهر معنی «العقد» هو الربط من دون اعتبار التوثیق والشدّة فیه؛ فإنّ اللغویـین یقولون: «تعاقدا، تعاهدا، المتعاقدان، المتعاهدان» ولیس من التوکید فیها عین ولا أثر، وانظر «المنجد» حیث رسم صورة العقدة بنحو لا یکون فی محلّ عقدتها شدّة وتوثیق. ومن معانی العقود فی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» ـ عند «مجمع البیان» ـ هذه العقود المتعارفة، ولیس فیها تأکید، بل لا یتصوّر؛ لما ذکرنا من أنّ اعتبار العقد فیها من جهة المسبّب، أی المبادلة، وأمرها دائر بین الوجود والعدم، لا الشدّة والضعف، وإصرار صاحب «لسان العرب» علی إثبات التوکید لا یثبته فی المعنی الحقیقی، ولو أراده لا نقبله . والظاهر أ نّه لا
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 124 یتوجّه إلی المعنی الاستعاری والحقیقی، وإنّما یذکر موارد الاستعمال.
والعجب من صاحب «الکشّاف» حیث قال: «یقال: وفی بالعهد، وأوفی به، ومنه «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ...» ، والعقد: العهد الموثّق، شبّه بعقد الحبل ونحوه، قال الحُطَیْئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم
شدّوا العناج وشدّوا فوقه الکربا»
هذا مع أنّ الشعر الذی استشهد به، یکون علیه لا له؛ فإنّه لو کان فی معنی العقد شدّة وتوثیق، لم یکن احتیاج إلی التقیید بقوله: «شدّوا العناج...» إلی آخره.
وبالجملة: لیس فی معنی العقد شدّة واستیثاق.
إن قلت، نعم، ولکنّه یحتمل استعارة العقد للمعاملات فی أحد قسمی العقد؛ وهو الذی فیه الاستیثاق.
قلت: هذا وإن أمکن، لکنّه بعید غایته؛ للزوم الادّعاء فی الادّعاء، بأن یدّعی أوّلاً أنّ العقد الذی فیه الاستیثاق هو الذی یستحقّ إطلاق اسم «العقد» علیه، ثمّ یدّعی أنّ المعاملات عقد کذائی وإن لم یکن فیها ربط حسّی. هذا تمام الکلام فی معنی العقد.
وأمّا معنی الوفاء، فهل هو الإتمام وعدم حلّ العقد، أو العمل بمقتضی العقد من التسلیم والتسلّم؟
فنقول: الاعتبارات مختلفة، فإنّه قد ترد مادّة الوفاء متعلّقة بالعمل، وحینئذٍ فالوفاء بمعنی إتیان ذلک العمل، وقد تتعلّق بنتیجة العمل، کالبیع ونحوه .
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 125 وقد وقع الإشکال فیه، فقیل: «الوفاء فیه بمعنی الإتمام؛ أی عدم حلّه وفسخه، فلا ارتباط له بالعمل بمقتضاه».
ولکنّ الظاهر أ نّه لا یختلف الحال بذلک؛ فإنّ القرار تعلّق فی القسم الأوّل بالعمل، والوفاء به بالعمل علی طبقه، وتعلّق فی القسم الثانی بالنتیجة، والوفاء بها بالعمل أیضاً علی طبقها، فالوفاء بالبیع الواقع لیس إلاّ بالعمل علی طبق القرار. فمجرّد أنّ الوفاء فی اللغة بمعنی الإتمام، لا یکون سبباً لما نفهم عرفاً من الوفاء المتعلّق بالنتائج.
هذا مع أنّ الإتمام فی النتائج أیضاً بمعنی العمل؛ فإنّ العقد الواقع لا إتمام له سوی العمل بمقتضاه، فاللغة أیضاً موافقة.
وحینئذٍ یرد إشکال: وهو أنّ الوفاء لو کان بمعنی العمل علی مقتضی العقد، وکان المراد بالعمل هو التسلیم والتسلّم، فهذا لا یتصوّر فی المعاطاة؛ لحصول التسلیم والتسلّم بالتعاطی.
اللّهمّ إلاّ فی المعاطاة بالأخذ والإعطاء فی أحد العوضین فقط کما فی السلم والنسیئة.
أو یقال: المراد بالعمل الذی هو الوفاء، معنی أوسع؛ بحیث یشمل عدم استرجاع ما سلّمه بعنوان الاسترجاع، وردّ ما أعطاه، لا بعنوان الغصب ونحوه، وحینئذٍ یتصوّر الوفاء فی التعاطی أیضاً. والظاهر هو الأخیر.
ثمّ إنّه یمکن أن یقال: الوفاء بحسب الاستعمالات، مشترک لفظاً بین الإتمام والعمل؛ لأنّا نری استعمال «الوفاء» فی بعض الموارد مع الباء، وهو فیما إذا
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 126 استعمل فی العقود، نحو: «أَوْفُوا بالْعُقُودِ»، «أَوْفُوا بِعَهْدِی أُوْفِ بِعَهْدِکُمْ...».
نعم، فی مورد واحد قال تعالی: «وَلْیُوفُوا نُذُورَهُمْ» بدون الباء.
وأمّا إذا استعمل فی الکیل والمکیال، فیستعمل بدون الباء؛ بحیث لا یشذّ عن هذا مورد، نحو «أَوْفُوا الْکَیْلَ»، «أوْفُوا الْمِکْیَالَ»، وغیر ذلک.
والمنساق إلی الذهن الفرق بین الاستعمالین؛ ففی الأوّل بمعنی العمل، وفی الثانی بمعنی الإتمام، وحینئذٍ فإن تعلّق النذر بالعمل کخیاطة ثوب عالم، أو بالنتیجة کنذر أن یکون هذا ملک زید ـ لو قلنا بصحّته فی النتیجة ـ فالوفاء بمعنی واحد؛ وهو العمل فیهما.
ومن هنا نقول بوهن التمسّک بالآیة فی باب الخیار؛ إذ لیس الوفاء بمعنی عدم الحلّ، والسرّ فی ذلک أنّ فی موارد استعمال الوفاء مع الباء، کأ نّه جعل وجود العقد ـ مع قطع النظر عن الوفاء به ـ مفروغاً عنه، وأوجب العمل بمقتضاه، کما یقال فی الوفاء بالصداقة: «إنّه العمل بلوازمها ومقتضیاتها» ومن لا یعمل بلوازمها لا یعدم الصداقة. وقد ظهر بما ذکرنا إثبات صحّة المعاملات بالآیة الشریفة.
بقیت إشکالات فی عموم الآیة لو دفعناها، لزمت صحّة جمیع المعاملات التی لم یردع عنها الشارع؛ حتّی المستحدثات التی لم یکن منها فی السابق عین ولا أثر.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 127