مسألة : حول بطلان الصلاة بالإخلال بالقراءة
قد سبق أن بسطنا الـقول حول جواز الاقتداء بالقُرّاء وعدمـه، وقرّبنا الـثانی، وقلنا: إنّ الـقراءات الـسبع غیر ثابت جوازها، فضلاً عن الـشواذّ والـنوادر، ولـو کـان یجوز، فیجوز کلّ وجـه لا یُخِـلّ بالعربیّـة وإن لـم یکن قـرأه أحـد.
وممّا یجب التنبیه علیه هنا: هو أنّ الـمحکی عن الـحافظ ابن کثیر فی تفسیره: الـصحیح من مذهب الـعلماء أنّـه یُغتَفر الإخلال بتحریر ما بین الـضاد والـظاء؛ لـقرب مخرجیهما؛ وذلک لأنّ الـضاد ... إلـیٰ أن قال: فلهذا کلّـه اغتفر استعمال أحدهما مکان الآخر لـمن لا یمیّز ذلک. واللّٰه اعلم.
وأمّا حدیث «أنا أفصح من نطق بالضاد» فلا أصل لـه. انتهیٰ.
وفی بعض الـتفاسیر الـحدیثـة: أنّ أکثر أهل الأمصار الـعربیّـة قد أرادوا الـفرار من جعل الـضاد ظاءً ـ کما یفعل الـترک وغیرهم من الأعاجم ـ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 195 فجعلوها أقرب إلـیٰ الـظاء منها إلـیٰ الـضاد حتیٰ الـقرّاء الـمجوّدون منهم إلاّ أهل الـعراق وأهل تونس ـ علیٰ ما نعلم ـ أفصح أهل الأمصار نُطقاً بالضاد، وإنّنا نجد أعراب الـشام وما حولها ینطقون بالضاد، فیحسبها الـسامع ظاءً لـشدّة قربها منها وشبهها بها، وهذا هو الـمحفوظ من فُصحاء الـعرب الأوّلین حتّیٰ اشتبـه نَقَلـة الـعربیّـة عنهم فی مفردات کثیرة، قالوا: إنها سُمعت بالحرفین، وجمعها بعضهم فی مصنّف مستقلّ، والأشبـه أنّـه قد اشتبـه علیهم أداؤها منهم، فلم یفرّقوا.
أقول: اختلاف أشکال الـحروف کتباً لأجل اختلاف الـحروف صوتاً وموجاً وحقیقـة، واختلاف تلک الأصوات والأمواج لاختلاف أسبابها ومبادئها الـوجودیّـة، ولو کان الـصوت الـحاصل من أصل حافّـة الـلسان وما یلیها من الأضراس من یمین الـلسان ویساره، عینَ الـصوت الـحاصل من طرف الـلسان واُصول الـثنایا الـعلیا، لـما کان وجـه لـتعدّد أشکالها الـکتبیّـة ولَلَزم الـلَّغْویّـة، ولما کان وجـه لـلاقتصار علیٰ الـشکلین، بل کان ینبغی تکثیر الـحروف الـکتبیّـة أکثر من هذا.
فانحصار وجوداتها الـکَتْبیّـة لأجل انحصار وجوداتهاالـسمعیّـة الـصوتیّـة، واختلافها کَتْباً لأجل اختلافها حقیقـة وسماعاً، فمن یتوهّم ذلک فهو لأجل قلّـة الـباع وعدم الـعثور والاطّلاع علیٰ جوانب الـقضایا وشتیٰ مسائلها.
ومن المحرّر فی محلّه: أنّ الأغلاط الإملائیّـة تنشأ من اختلاف الألسنـة،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 196 وإلاّ فلا معنیٰ لأن یغلط فی کتابـة الـحروف الـعربیّـة، کما لا یغلط الإنسان فی سماع الـفاء والـقاف، کذلک لا یقع فی الـغلط الإملائی فی سماع الـظاء والـضاد والـذال والـزاء؛ لأنّ لـکلٍّ منها مخرجاً یخصّـه وصوتاً ممتازاً عن الآخر ثبوتاً وواقعاً. نعم ربّما لا یتمیّز لـقرب الـمخارج والأصوات، کما ربّما لا یتمیّز بین الـحروف الـمتمیّزة إثباتاً؛ لـبعد الـمسافـة وضعف قوّة الـسامعـة، ولکن لا هذا ولا ذاک لـه مدخلیّـة فی واقعیّـة الأمر.
وغیر خفیّ: أنّ الإنسان ربّما یقتدر علیٰ إخراج الأصوات الـمشابهـة من الـمخارج الـکثیرة، أو الأصوات الـمضادّة من الـمخرج الـواحد، ولکنّـه خروج عن طبع الـمتکلّم واُسلوب الـمخاطبات.
وأمّا ما فی بعض الـتفاسیر الـحدیثـة من الاستشهاد علیٰ اختلافها: بأنّ قولـه تعالیٰ: «وَمَا هُوَ عَلَیٰ الْغَیْبِ بِضَنِینٍ» قد قرئ بکلٍ من الـضاد والـظاء، والـضنین هو الـبخیل، والـظنین الـمتّهم، ولو استویٰ الـحرفان لـما ثبت فی هذه الـکلمـة قراءتان اثنتان.
فهو قریب إلاّ أنّـه لـیس من الـبرهان الـلمّ، بل هو من قبیل الإنّ الـقابل للمناقشـة؛ بأنّـه منشأ الـتوهّم.
وبعبارة اُخریٰ: یمکن أن یتوهّم أحد اتّحادهما ثبوتاً، ویدّعی أنّ اختلافهما فی الـقراءة ناشئ عن الـغفلـة عن حقیقـة الـحال.
والـظاهر أنّ الـمسألـة عند فقهائنا إجماعیّـة، وأنّ الإخلال بالضاد من
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 197 «الـمغضوب علیهم» بإتیان الـظاء یورث الـبطلان، إلاّ أنّ هنا اختلافاً فی أنّ الـکلمـة تبطل، أو الـصلاة ـ مثلاً ـ تصیر باطلـة، فظاهر الأکثر هو بطلان الـصلاة؛ لأنّـه من الـزیادة الـعمدیّـة، وهی منهیّ عنها وموجبـة لـلبطلان.
ومن الـممکن توهّم: انصراف أدلّـة الـزیادة الـعمدیّـة عن مثلـه؛ لأنّـه یُعَدّ من قراءة الـقرآن غلطاً، وهو لا یورث فساد أصل الـصلاة.
وفیـه مالا یخفیٰ، فإنّ الـقرآن لا یوصف بالغلط والـصحیح، بل هو موضوع لـما نزل بـه جبرئیل علیه السلام علیٰ رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم، وهو أمر مضبوط وواحد من عند الـواحد، ووجوده الـکتبی مرآة ذلک الـوجود الـوحدانی الـنورانی. وللمسألـة موقف آخر یطلب منـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 198