علم الأسماء والعرفان
قد تحرّر فی محلّه: أنّ غیر هذا الـسفر الـظاهری والـحرکـة الـمتوسّطـة بین الـمبدأ والـمعاد، سفراً معنویّاً ینقسم إلـیٰ غیر الـنهایـة؛ حسب الـسیر فی الـمعانی والـروحانیّات، وحسب الـحرکـة فی الـحسنات الأخلاقیّـة والفضائل الإنسانیّـة؛ بالخروج من الحُجُب الظُلمانیّة وبترک الغرائز الـرذیلـة، إلاّ أنّ الـمعروف منهم ـ ومن تحریراتنا فی «الـقواعد الـحکَمیّـة» لبعض المناسبات الـعرفانیّـة ـ أنّ عُمُده أربعـة، وقد ذکرناها فی بعض البحوث الـسابقـة، ونشیر إلـیها حتّیٰ یتوجّـه الـسالک الـعارف إلـیٰ أنّ هذه الـسورة قد اشتملت ـ حسب الـذوقیّات الإدراکیّـة ـ علیٰ تلک الأسفار غیر مرّة.
اعلم: أنّ الـسفر الأوّل هو الـسیر من الـخلق إلـیٰ الـحقّ الـمخلوق بـه والـحقّ الـثانی؛ برفض الـکثرات والـخروج عن تلک الـبیوت والـدور، والـوصول إلـیٰ مرتبـة الـقلب بشهود الـوحدة الـظلّیّـة الـمستجمعـة لـجمیع
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 212 الأوصاف والـکمالات الـکلّیّـة، وتلک الـوحدة مظهر الـوحدة الأصلیّـة، ولعلّ إلـیٰ هذه الـسفرة الـصعبـة یشیر الـمولوی:
جمله دانسته که این هستی فخ است
ذکر و فکر اختیاری دوزخ است
والـسفرة الـثانیـة من الـحقّ الـمخلوق بـه إلـیٰ الـحقّ الأوّل؛ بخروجـه عن تلک الـوحدة الـوهمیّـة، ووصولـه إلـیٰ مقام الـواحدیّـة؛ بمشاهدة الأوصاف والـصفات الإلهیّـة، وملاحظـة أحکام الـروح بعد الـخروج عن بیت الـقلب وقبل الـوصل إلـیٰ مقام الـسرّ.
والـثالثـة من الـحقّ الأوّل ـ ومن الـحضرة الـواحدیّـة الـجمعیّـة ـ إلـیٰ الـحقّ الـمتجلّی بتجلّی الأحدیّـة الـغیبیّـة الـذاتیّـة؛ بخروجـه من الـمرتبـة الـسابقـة ووصولـه إلـیٰ هذه الـحضرة. وهناک سفرة اُخریٰ غیر ممکنـة وقد استأثرها لـنفسـه لا ینالها الأوحدی.
عنقا شکار کس نشود دام بازگیر
ویصل فی هذه الـورطـة إلـیٰ مقام الـخفاء بل والأخفیٰ، وهنا الـضلالـة الـحقیقیّـة لـما لا یبقیٰ منـه الأثر، ویبقیٰ ببقاء اللّٰه، فإذا کان ممّن شملتـه الـعنایـة الإلهیّـة والـرحمـة الـرحیمیّـة، یشرع فی الـسفرة الأخیرة من الـحقّ الأوّل إلـیٰ الـخلق، واجداً لـمقام الـبرزخیّـة الـکبریٰ، متنعّماً بأنواع الـنعمـة، وفی هذه الـسفرة یأتی بالتشریع والـقانون. وقد اختلفت
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 213 أحکام الـراجعین إلـیٰ الـحقّ حسب اختلاف حالاتهم فی هذه الأسفار، واختلفت الـشرائع الإلهیّـة لاختلاف مقاماتهم:
فمن سافر من بیت الـنفس الـمظلمـة بالمرّة، وجاهد فی اللّٰه حقّ جهاده، وتوجّـه إلـیـه توجّهاً تامّاً بجمیع شؤونـه وأحکام وجوده، هو الـنبیّ الإسلامی الـخاتم، محمّد بن عبداللّٰه الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم روحی وروح الـعالمین لـتراب قدمـه الـفداء، وقد صاحبـه فی هذه الـسفرة الأنوار الاُخر والأئمّـة الاثنا عشر بوحدة نورانیّـة، حشرنا اللّٰه تعالیٰ معهم، ورزقنا اللّٰه شفاعتهم.
فإذا طلع لـک هذه الـحقائق وظهر علیک تلک الـرقائق الـمبرهنـة فی مقاماتها والـمشفوعـة بالمشاهدات الـعرفانیّـة عند أهلها، فإلـیک الآیات الأخیرة من هذه الـسورة الـجامعـة: فإنّ الـمنعَم علیهم هم الـذین رجعوا عن الـسفرة الـثالثـة إلـیٰ الـشهود، ومن الـفناء الـذاتی والـصفاتی والأفعالی إلـیٰ الـبقاء ببقاء اللّٰه، ومن الـباطن والـغیب الـمطلق إلـیٰ الـظاهر والـشهادة الـمطلقـة، فهم الـمهتدون الـحقیقیّون الـذین یطلب الـسالک أن یهتدی بهداهم ویقتدی بهم.
والـمغضوب علیهم هم الـذین لـم یخرجوا من سجن الـطبیعـة، ولم یتحرّکوا إلـیٰ دار الـعزّة والاهتداء، وانغمروا فی الـشهوات والـرذائل، وانغمسوا فی الـخبائث والـمادّة، ولم یُدرکوا من الـغیب شیئاً ولا من الـحقیقـة أمراً، ولم یذوقوا من أطعمـة الآخرة، ولا من لـذائذ الـقیامـة؛ حتّیٰ ماتوا کالأنعام، بل هم أضلّ سبیلاً.
وأمّا الـضالّون الـمتحیّرون الـباقون فی الـسفرة الـثانیـة والـثالثـة، ولم تدرکهم الـعنایـة الإلهیّـة بالخروج من جلباب الـحجب الـنورانیّـة، فلم
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 214 یصبحوا فی الآفاق الـمطلوبـة؛ بالرجوع من تلک الـوحدات، فلم یتمکّنوا من حفظ مقام الـکثرة فی الـوحدة والـوحدة فی الـکثرة، فضلّوا ـ کما أنّ الـحکمـة ضالّـة الـمؤمنین ـ وقد تبیّن لـک أنّ الـضلال أصلـه الـهلاک، فهلکوا. واللّٰه هو الـمؤیّد، وعلیـه الـتکلان.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 215