عدم شمول آیة حل البیع للمعاطاة
ثمّ إنّـه ربّما یشکل الـتمسّک بقولـه تعالـیٰ: «أَحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» لأجل الـجهل بالـمراد من «الـحلّیـة» فإنّـه من الـمحتمل إرادة الـحلّیـة الـتکلیفیّـة؛ أی أنّ الـبیع الـناقل والـسبب الـبیعیّ الـمملّک حلال، ولایعاقب الـناس علیـه، وکون الـمعاطاة سبباً مملّکاً غیر معلوم، فلاتشهد الآیـة علی صحّتها.
ویمکن رفع الاستبعاد عنـه بقولـه تعالـیٰ: «وَحَرَّمَ الرِّبَا» الـظاهر فی الـتکلیفیّـة. وکون الـزیادة غیر منتقلـة إلـی الـمشتری، لایورث خلافـه؛ ضرورة أنّ الـربا محرّم تکلیفاً زائداً علیٰ حرمـة الـتصرّف فی مال الـغیر.
وهکذا لو فرضنا أنّ الـمحرّم الـبیع الـربویّ، فإنّـه مضافاً إلـیٰ فساده محرّم تکلیفاً، فالـحلّیـة الـتکلیفیّـة مصبّها الـموضوع الـمفروضـة صحّتـه عرفاً وشرعاً، والـحرمـة موضوعها الـمفروضـة صحّتـه وحلّیتـه عرفاً، لا شرعاً.
ویندفع أوّلاً: الـموضوع الـمفروض لیس إلاّ الـمعاطاة؛ لأنّها هی الـمتعارفـة بین الـناس، فیشکل صحّـة الـبیع الـعقدیّ.
وثانیاً: لا وجـه لحمل الآیـة علی الإهمال، والإطلاق یقتضی صحّـة الـبیع؛ للملازمـة الـعرفیـة بین الـحلّیـة والـصحّـة. مع أنّ الـحلّیـة ربّما
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 38 کانت بمعنی الإطلاق والإرسال مقابل الـحرمـة، وهی بمعنی الـمنع، ولایستعملان فی مفاهیم الـوضع والـتکلیف؛ وإن اعتبرا منـه لأجل الـخصوصیّات الـخارجـة عن الاستعمال، علیٰ ما تقرّر فی الاُصول.
فبالجملة: یتوقّف الاستدلال علیٰ ثبوت الإطلاق، وإلاّ فالـحلّیـة بجمیع محتملاتها تجامع الـصحّـة إمّا شرعاً، أو عرفاً. وتوهّم دلالـة الآیـة بالـمطابقـة علیها، ساقط جدّاً؛ لأنّ الـمفهومین مختلفان.
ودعویٰ: أنّ الـحلّیـة هنا بمعنیٰ أنّـه تعالـیٰ أحلّـه محلّـه وأقرّه مقرّه، ولیس معناها أنّـه لم یصدّ عنـه وجعلـه مرخیّ الـعنان فی تأثیره؛ لأجل أنّ الـحلّ - فی قبال الـشدّ - یتعدّیٰ بنفسـه، مدفوعـة؛ ضرورة أنّ من الأفعال ما یتّحد معناه فی الـمجرّد والـمزید فیـه، ولا ملزم لاستعمال الـمجرّد، کما لایخفیٰ.
إن قلت: الـمحتملات حولها کثیرة، فیحتمل أن تکون الآیـة إنشاء، ویحتمل أن تکون إخباراً، ویحتمل أن تکون ناظرة إلـیٰ نفی الـمماثلـة فی الـحکم، ویحتمل أن تکون ناظرة إلـیٰ نفیها فی حکم الـزیادة الـحاصلـة بالـبیع، والـحاصلـةِ من الـبیع الـربویّ، ویحتمل کونها جملـة حالـیّـة، أو استقلالیّـة، ویحتمل کونها موجبـة، أو فی حکم الـسالـبـة؛ لما أنّها سیقت
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 39 لرفع الـمنع.
وبالجملة: یحتمل فیها الإطلاق والإهمال، ولایمکن الـخروج عن هذه الـمحتملات حتّیٰ یمکن الاستدلال بها ولو ثبت الإطلاق وإن تمّ الاستدلال إلاّ علی الاحتمال الـثانی، إلاّ أنّ الـظاهر کونها جملـة إخباریّـة عن طبیعیّ الـفرق، ولایکون الـمخبر عنـه منشأً بنحو الإطلاق والـکلّیـة.
أو الـظاهر أنّها لاتبیّن حکم طبیعـة الـبیع؛ لما هی معلومـة، فهی مسوقـة لبیان الـفرق بین ربح الـمکسب الـصحیح والـبیع الـربویّ.
وإن شئت قلت: الـمستفاد منها أنّ ماهو الـحاصل من الـبیع - أی الـمؤثّر الـخارجیِّ - غیر الـحاصل من الـمکسب الـباطل، فلایعقل دلالتها علیٰ صحّـة الـمعاطاة.
قلت: لاشبهـة فی أنّها بظاهرها جملـة حالـیّـة إخباریّـة مسوقـة لبیان الـفرق بین الـموضوعین، ردّاً علی الـذین «قَالُوا إنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا» ووجـه الـفرق حلّیـة الـبیع وحرمـة الـربا.
والـذی یستظهر منها: أنّ الـمراد - بعد ملاحظـة الـقرائن حول الآیـة الـکریمـة الـشریفـة - نفی الـتسویـة بین الـبیع غیر الـربویّ والـربویّ؛ لأنّ الـربا الـمحرّم لیس عنواناً یقابل الـبیع، بل هو من الأوصاف الـمصنّفـة للبیع ونحوه، والـمقصود من نفیها بهذه الـکیفیّـة إرشاد الـقائلین بها إلـی أنّهما کیف یتساویان، مع اختلاف ملاکهما والـمصلحـة والـمفسدة فیهما؟! ضرورة
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 40 أنّ اللّٰه حرّمـه وأحلّ الـبیع، وذلک لایکون جزافاً، فیعلم الـفرق بینهما قطعاً.
فإذن لا معنیٰ لإطلاقها؛ لعدم کونها فی مقام جعل الـحکم، أو الإخبار عن الـحکم الـمجعول بنحو الإطلاق؛ لأنّـه خارج عمّا یعلم من مقصود الـمتکلّم. بل ربّما یلزم الـکذب؛ لأنّ مقتضیٰ کونها إخباریّـة إخبارها عن أمر جدّی، لا صوریّ وقانونیّ، ولیس مطلق الـبیع حلالاً جدّاً، فتأمّل جیّداً.
وأمّا توهّم عدم إمکان الـتمسّک بها؛ علیٰ فرض إطلاقها فی الـفرض الـثانی، فغیر تامّ؛ لأنّ لازم حلّیـة الـزیادة الـحاصلـة من الـبیع بنحو الإطلاق حلّیتـه أیضاً؛ لأنّ الـبیع مفهوم عرفیّ، ولا معنیٰ لحملـه علی الـمعنی الـمؤثّر الـشرعیّ، فإذاکانت الـمعاطاة بیعاً فالـزیادة الـحاصلـة منها حلال، ومقتضاها صحّتها قهراً، فتأمّل.
والحاصل: أنّ الاحتمالات لاتضرّ بالاستدلال لو أمکن إثبات الإطلاق، ولکنّـه مشکل جدّاً.
نعم، بناءً علیٰ ما سلکناه فی الـمسألـة، لاتبقی الـمعاطاة بلا دلیل؛ لأنّها الـقدر الـمتیقّن من شمولها.
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 41