الأمر الرابع : فی المراد بمتعلّقات الأحکام
وهذا الأمر هو العمدة فی الباب ، وعلیه یبتنی أساس القول بالجواز ، وحاصله : أنّ متعلّقات الأحکام ، هل هی العناوین المأخوذة فی لسان الأدلّة ؛ أعنی الماهیة اللابشرط من حیث هی منسلخة عن کافّة اللواحق والعوارض ، أو بما هی موجودة فی الخارج أو فی الذهن ، أو بما هی مرآة لما فی الخارج ، أو أنّ معنونات هذه العناوین
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76 ـ وهی أفعال المکلّفین ـ متعلّقات للأحکام ، فجعل العناوین قنطرة إلیها؟ وجوه .
ولیعلم : أنّه إذا کانت متعلّقات الأحکام المعنونات ، یصحّ النزاع فی أنّ الخصوصیات التی تقارنها ، هل تتحد معها ، أو تنضمّ معها؟ وإلاّ فإن قلنا : إنّ متعلّقات الأحکام هی نفس العناوین بما هی ، فیکون حدیث الانضمامیة أو الاتحادیة غیر صحیح ؛ لأنّهما من شؤون الوجودات الخارجیة ، والمفروض أنّها غیر متعلّقة للتکالیف . ولیکن هذا علی ذکر منک ، وسنشیر إلیه قریباً ، فارتقب .
وکیف کان قال المحقّق الخراسانی قدس سره فی المقدّمة الثانیة : «لا شبهة فی أنّ متعلّق الأحکام ، هو فعل المکلّف وما هو فی الخارج یصدر عنه ، وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ـ وهو واضح ـ ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه ؛ بحیث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً ، لما کان بحذائه شیء خارجاً» .
وقال فی المقدّمة الثالثة : «إنّه لا یوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدّد المعنون ، ولا ینثلم به وحدته ؛ فإنّ المفاهیم المتعدّدة والعناوین الکثیرة ، ربما تنطبق علی الواحد وتصدق علی الفارد الذی لا کثرة فیه من جهة ، بل بسیط من جمیع الجهات لیس فیه حیث غیر حیث وجهة مغایرة لجهة ، کالواجب تبارک وتعالی ، فهو ـ علی بساطته ، ووحدته ، وأحدیته ـ تصدق علیه مفاهیم الصفات الجلالیة والجمالیة» .
أقول : لیت شعری هل مراده قدس سره ما هو الظاهر من کلامه من تعلّق البعث أو الزجر بما هو الموجود خارجاً ، وقد نفاه قدس سره عند البحث عن تعلّق الأوامر والنواهی
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77 بالطبائع أو الأفراد؟ وهو الحقّ ؛ لأنّ تعلّق الحکم بالوجود الخارجی أو الإیجاد بالحمل الشائع ، لا یمکن إلاّ فی ظرف تحقّقه ، والبعث إلی إیجاد المتحقّق تحصیل للحاصل وطلب لما هو الموجود ، کما أنّ الزجر عمّا وجد خارجاً ممتنع .
وواضح أنّه لم یکن لنا فی محطّ البحث ، واحد بسیط تنطبق علیه عناوین عدیدة إلاّ الحرکة الخارجیة ؛ فإنّه ینطبق علیها عنوانا «الصلاتیة» و«الغصبیة» ومن المعلوم أنّها غیر موجودة عند تعلّق الحکم ، ولیس هناک إلاّ عنوان لم یکن شیئاً قبل تصوّره ، وعند تصوّره یکون موجوداً ذهنیاً ، ومع تقییده ذهناً لا یمکن انطباقه علی الخارج ، ولو تعلّق الحکم بالخارج یلزم تحصیل الحاصل وطلب ما هو الموجود ، وقد نفی هذا المحقّق قدس سره تعلّق الحکم بما هو الموجود خارجاً ، فلاحظ .
وقد ذکرنا ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ ما هو الحقّ فی متعلّق الأحکام ، ولکن حیث إنّ الإعادة لا تخلو من فائدة ، لذا نرجع ونشیر إلی ما هو الحقّ :
فنقول : إنّ متعلّق البعث أو الزجر ، لیس إلاّ نفس الطبیعة من حیث هی ، لا بما هی موجودة فی الخارج ؛ لاستلزامه البعث إلی ما هو الحاصل خارجاً ، والزجر عمّا تحقّق کذلک ، ولا بما هی موجودة فی الذهن ؛ لأنّه لو کان کذلک لما انطبق علی الخارج ؛ ولا بما هی مرآة للخارج ، لکونه خلاف ظاهر الأدلّة ، وقد أشرنا آنفاً إلی أنّ اتحاد الطبیعة خارجاً مع الخصوصیات والعوارض ، غیر حدیث الکشف والمرآتیة ، ولذا أشرنا إلی أنّ الماهیة وإن اتحدت خارجاً مع الوجود ، بل هی عین الوجود ، ولکن مع ذلک لا یحکی اللفظ الموضوع لأحدهما عن الآخر ، فلکلّ منهما شأن یغنیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 78 وعلیه فمتعلّق الأمر هو نفس الطبیعة من حیث هی ، فحیث یری المقنّن أنّ نفس الطبیعة بوجودها الخارجی منشأً للأثر ، فیتصوّرها ، ویصدّق بفائدتها ، فیشتاق إلیها أحیاناً ، فیریدها ، ثمّ یبعث نحوها فیرید إیجادها ، نظیر إشارة الأخرس فی التکوینیات .
وکذا الحال فی جانب الزجر ، فیری المقنّن أنّ نفس الطبیعة بوجودها الخارجی ذات مفسدة ، فتنقدح مبادئ الزجر فی ذهنه ، فیزجر عنها ، فیرید عدم إیجادها خارجاً .
ثمّ إنّ الماهیة وإن کانت موجودة فی الذهن عند تصوّرها ، وکانت مصداقاً ذهنیاً للماهیة ، ولکنّها بوجودها الذهنی لم یحمل علیها شیء ، ولم تکن موضوعاً للحکم ، بداهة أنّه کما أنّک فی قولک : «زید إنسان» لم ترد حمل الإنسانیة علی الماهیة الموجودة فی الذهن بما أنّها موجودة فیه ؛ لعدم صدق المصداق الذهنی علی المصداق الخارجی ، بل المراد حمل نفس طبیعة الإنسانیة ، فکذلک المقنّن ، فلحاظ الماهیة ذهناً وجعل ظرف تحقّقها فی الذهن ، باعتبار أنّ تعلّق الحکم بالموضـوع یتوقّف علـی تصوّر الموضوع ، وإلاّ فنفس الطبیعة من حیث هی متعلّقة للحکم .
وإن شئت مزید توضیح لما ذکرنا فنقول : إنّ وزان الحکم بالنسبة إلی موضوعه وزان لوازم الماهیة إلی نفسها ؛ فإنّ لزوم الإمکان للماهیة والزوجیة للأربعة ، وإن کان لا یتوقّف علی وجودهما خارجاً أو ذهناً ، إلاّ أنّ ظهور اللزوم یتوقّف علی وجود المعروض فی أحد الموطنین ، فکذلک الحکم بالنسبة إلی موضوعه ، فإنّه وإن لم یتعلّق بنفس الطبیعة مقیّدة بأحد الموطنین ، ولکن حیث إنّ تعلّق الحکم یتوقّف علی تصوّر الموضوع ، فتکون الطبیعة متعلّقة للحکم فی الذهن ، لا بما هی موجودة فیه ، ولا بما هی موجودة فی الخارج .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 79 وأمّا حدیث أنّ «الماهیة من حیث هی لیست إلاّ هی» لا محبوبة ولا مبغوضة ، فلا تکون محصّلة للغرض ، فکیف یبعث نحوها؟! فقد عرفت حالها ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ عند التکلّم فی کون متعلّقات الأحکام الطبائع دون الأفراد ، وحاصله : أنّه لا منافاة بین تعلّق البعث بنفس الطبیعة وکون الماهیة من حیث هی لیست إلاّ هی ، ولا یلزم من ذلک کون الماهیة من حیث هی ، مؤثّرةً فی تحصیل الغرض ، بل المولی لمّا رأی أنّ إتیان الصلاة ووجودها خارجاً محصّل للغرض ، فلا محالة یتوسّل إلیه بوسیلة ، ولا یکون ذلک إلاّ بالتشبّث بالأمر بالطبیعة لیبعث العبد إلی إیجادها ، فمتعلّق الأمر هو الطبیعة ، والهیئة باعثة نحو إیجادها ، وإن شئت تفصیل المقال فاطلب مظانّه .
فتحصّل ممّا ذکر : أنّ متعلّقات الأحکام إنّما هی نفس الطبائع والعناوین من حیث هی ، لا معنوناتها ، ولا هی بما أنّها مرآة للخارج .
ولو سلّم أنّ الماهیة بما هی مرآة للخارج ، متعلّقة للحکم ، ولکنّ هذا لا یضرّ بما نحن بصدد إثباته عجالة ؛ وهو إثبات الجواز فی المسألة ؛ وذلک لأنّه لو کانت للطبیعة مرآتیة ، فإنّما هی بالنسبة إلی الأفراد والمصادیق الذاتیة لها ، فماهیة الصلاة مثلاً تکون حاکیة لما یکون فرداً ذاتیاً لها ، ولا تحکی عمّا یتحد معه ، ولا یتخطّی الحکم المتعلّق به إلی ما یلازمه ویقارنه ویتحد معه ، وکذا ماهیة الغصب تحکی عمّا یکون مصداقاً ذاتیاً لها ، ولا یتجاوز الحکم المتعلّق بها إلی ما یلازمها ویقارنها . هذا کلّه فیما إذا کان متعلّق الأحکام بصورة الإطلاق .
وکذلک الحال فیما إذا کان بصورة العموم ؛ وذلک لأنّ قولک : «أکرم کلّ عالم»
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 80 لیس معناه : أکرم زیداً وعمراً وبکراً . . . وهکذا ، حتّی یکون معنی «لا تکرم کلّ فاسق» أیضاً : لا تکرم زیداً ، وعمراً ، وبکراً الفاسقین ؛ حتّی یوجبا تعلّق البعث والزجر بشیء واحد ، بل لم یکن فی المثال الأوّل إلاّ عنوان «العالم» ولفظة «کلّ» دالّة علی الکثرة الإجمالیة ، وإضافة «کلّ» إلی «العالم» تفید کثرة مدخوله ، فیکون معناه : أکرم کلّ فرد من أفراد طبیعة العالم ، وهو عنوان یقبل الصدق علی الأفراد الموجودة فی الخارج من زید ، وعمرو ، وبکر. . وهکذا ، لا عینها .
وکذا الحال فی المثال الثانی ، إذ لم یکن إلاّ عنوان «الفاسق» وإضافة «کلّ» إلیه تفید کثرة مدخوله ، فیکون معناه : لا تکرم کلّ فرد من أفراد طبیعة الفاسق ، وهو عنوان یقبل الصدق علی الموجودین فی الخارج ، فعنوان «کلّ عالم» غیر عنوان «کلّ فاسق» فی عالم المفهومیة وإن انطبقا خارجاً علی زید وعمرو وبکر . . . وهکذا ، فلا منافاة بین الحکم علی أحدهما وبین الحکم علی الآخر .
فظهر أنّه لا فرق فی القول بالجواز بین کون متعلّق الحکم الماهیة اللابشرط أو عموماً ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 81