المطلب الثامن : فی حکم مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص
قد اشتهر بینهم : أنّ الصحّة والفساد أمران إضافیان مساوقان للتمام والنقص لغة وعرفاً ، بینهما تقابل العدم والملکة ، ویعنون بـ «الملکة» الصحّة ، وبـ «العدم» الفساد . والاختلاف فی التعبیر بین الفقیه والمتکلّم لأجل ما هو المهمّ فی نظرهما ؛ لأنّ نظر الفقیه حیث یکون فی وجوب الإعادة والقضاء وعدمهما ، فسّر الصحّة بإسقاط الإعادة والقضاء ، وحیث یکون نظر المتکلّم فی حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق العقوبة ، فسّرها بما یوافق الأمر تارة ، وبما یوافق الشریعة اُخری . ولا یخفی ما فیه :
أمّا حدیث المساوقة ، فقد أشرنا فی مبحث الصحیح والأعمّ إلی عدم تمامیته ، بل أشرنا إلی أنّ الصحّة والفساد یخالفان التمام والنقص مفهوماً ؛ لغة ، وعرفاً ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 145 ومصداقاً ؛ لأنّ التمام والنقص عند العرف والعقلاء ، یطلقان غالباً فی المرکّب ذی الأجزاء ، فإن تمّت أجزاؤه یطلق علیه «التمام» فیقال : «بیت تامّ» إذا کملت مرافقه ، ولا یطلق علیه «بیت صحیح» وإن نقص منه بعض مرافقه یطلق علیه «بیت ناقص» ولا یطلق علیه «بیت فاسد» وأمّا الصحّة والفساد فغالب استعمالهما عندهم فی الکیفیات والأحوال ، مثل الکیفیات المزاجیّة أو الشبیهة بها ، فیقال : «بطّیخة صحیحة» إذا کانت حلوة لم تفسدها المفسدات ، ولا یطلق علیها «بطّیخة تامّة» کما یقال : «بطّیخة فاسدة» إذا تعفّنت ، ولا یطلق علیها «بطّیخة ناقصة» .
وبالجملة : إن کان هناک مزاج وکیفیة وطابق المصداق المزاج المتوقّع من الطبیعة ، یقال : «إنّه صحیح» وإن لم یطابقه فیقال : «إنّه فاسد» فالصحّة والفساد کیفیتان عارضتان للشیء ؛ فإن کانت مطابقة للکیفیة المترقّبة من ذلک الشیء ، یطلق علیه «الصحیح» وإن کانت منافرة لمزاجه یطلق علیه : «الفاسد» فالفاکهة الفاسدة ما عرضتها کیفیة وجودیة منافرة لمزاجها تتنفّر منها الطبائع غالباً ، کما أنّ الفاکهة الصحیحة ما تکون ملائمة لمزاجها تشتاق وتمیل إلیها الطبائع غالباً .
فعلی هذا یکون التقابل بین التمام والنقص ، تقابل العدم والملکة ، کما أنّ التقابل بین الصحّة والفساد تقابل التضادّ ، فحدیث مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص وکون النسبة بینهما تقابل العدم والملکة ، کما تری .
نعم ، لا یبعد أن تکون النسبة بین عنوانی «التمام» و«الصحة» العموم من وجه من حیث المورد والمصداق .
هـذا ما یقتضیـه نظر العرف واللغـة بالنسبـة إلی مفهومی الصحّـة والفساد ، والتمام والنقص .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 146 نعم ، یمکن تصحیح ما ذکروه من التساوق فی الشریعة ، حیث تطلق الصحّة والفساد فی باب العبادات والمعاملات علی مرکّب ذی أجزاء وشروط ، فإذا کملت أجزاء الصلاة وشروطها مثلاً ولم تجامعها الموانع ، یطلق علیها «الصحّة» ویقال : «إنّها صلاة صحیحة» کما أنّه إذا فقد جزء أو شرط لها أو وجد مانع ، یطلق علیها «الفاسدة» ویقال : «إنّها صلاة فاسدة» وهکذا یطلق «الصحیح» و«الفاسد» علی عقد البیع ، فیطلق علیه «الصحیح» إن کان واجداً للأجزاء والشروط فاقداً للموانع ، کما یطلق علیه «الفاسد» إذا فقد معه جزء أو شرط ، أو قرن بالمانع .
وبعد ما عرفت : أنّ إطلاق «الصحّة» و«الفساد» عند العرف واللغة ، إنّما هو فیما إذا کان هناک مزاج وکیفیة تطابقه أو لا تطابقه ، ولم یکن لماهیة الصلاة والبیع کیفیة ومزاج ، فإطلاقهم فی العبادات والمعاملات علی المرکّب ذی الأجزاء ، لابدّ إمّا أن یکون بوضع جدید ، أو باستعمال مجازی ؛ بحیث کثر استعمالهما فیها وشاع إلی أن بلغا حدّ الحقیقة .
ولکن من البعید دعوی وضع جدید فی ذلک من الشرع ؛ حتّی یکون الموضوع له فیهما فی الاُمور التکوینیة ، ما تکون له کیفیة ومزاج ، وفی العبادات والمعاملات ما تکون له أجزاء وشروط .
نعم ، لا یبعد أن یکون إطلاقهما فی العبادات والمعاملات علی ما یکون له أجزاء وشروط ، بنحو من العنایة وعلی سبیل المجاز ، فاستعملتا فیه کثیراً إلی أن بلغا حدّ الحقیقة .
وکیف کان : فدعوی مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص ، غیر وجیه إلاّ فی خصوص العبادات والمعاملات . فعلی هذا یکون الصحّة فی الماهیات المخترعة ، صفةً لمصداق جامع لکافّة الأجزاء والشروط ، فاقدٍ للموانع ، مطابق للمخترع والمجعول ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 147 والفساد مقابلها ، فینقلب التقابل بینهما من التضادّ إلی تقابل العدم والملکة ؛ لأجل تغیّر معناهما فی العبادات والمعاملات .
ولکن لیس کما زعموا من کون الملکة عبارة عن الصحّة ، والعدم عبارة عن الفساد ، نظیر ما قالوه فی الطهارة والنجاسة من «أنّ الطهارة أمر وجودی ، والنجاسة عدمها عمّا من شأنه أن یکون طاهراً» وذلک لعدم تمامیة ما ذکروه فی الموردین :
أمّا باب النجاسة والطهارة ، فلیس الأمر کما زعموه ، بل الأمر بالعکس ؛ لأنّ النجاسة أمر وجودی ، والطهارة أمر عدمی ؛ وذلک لأنّ الشیء بخلقته الإلهیة لا یکون قذراً ، بل إن لاقته إحدی الأعیان النجسة یصیر قذراً ونجساً ، فإن زالت القذارة عنه رجع إلی أصل خلقته ، ویصیر طاهراً غیر قذر ، ولم یأتِ الشارع الأقدس فی باب الطهارة والنجاسة بشیء من قِبل نفسه علی خلاف ما علیه العقلاء ، بل أبقی وأنفذ ما هم علیه ، ومن المعلوم أنّ الثوب الطاهر مثلاً عندهم هو ما لم یصبه شیء قذر ، وإن أصابه قذر فیطلقون علیه «أنّه نجس» فإن اُزیلت منه القذارة رجع الثوب إلی أصله ؛ وهو عدم القذارة ، فلیست الطهارة أمراً عارضاً علی الثوب ، بل القذارة هی التی تعرض علیه ، فالنجاسة أمر وجودی ، والطهارة عدمها .
وأمّا فی المقام فکذلک ؛ فإنّ الصحّة تکون أمراً عدمیاً ، والفساد یکون أمراً وجودیاً ؛ لأنّ الصحّة فی الاُمور التکوینیة ، هی عبارة عن کون الشیء علی خلقته الأصلیة وبحسب طبعه الأصلی ، فلیست الصحّة أمراً عارضاً علی الشیء ، نعم إن عرضه شیء یفسده صار فاسداً ، فالصحّة خلوّ الشیء من المفسد ، والفساد طروّ المفسد علی الشیء ، مثلاً البطّیخة الصحیحة لا یکون فیها ـ مضافاً إلی أصل طبیعة البطّیخة ـ أمر آخر طارئ علیها ، بل بمجرّد خلوّها من المفسدات یطلق علیها «الصحیحة» وإن طرأ علیها مفسد یطلق علیها «الفاسدة» .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148 فتحصّل : أنّ النسبة بین الصحّة والفساد وکذا بین الطهارة والنجاسة ، عدم وملکة ، لکن علی عکس مسلک القوم .
وأمّا قولهم: «إنّ الصحّة والفساد أمران إضافیان» فلا یخفی عدم تمامیته فی الاُمور التکوینیة ؛ لأنّ معنی کون الصحّة والفساد فی التکوینیات إضافیین ، هو أنّ بطّیخة واحدة بالإضافة إلی شیء صحیحة ، وبالإضافة إلی شیء آخر فاسدة ، مع أنّ الشیء إذا کان صحیحاً لا یکون فاسداً ، وهو واضح .
نعم ، یمکن اعتبار الإضافة إذا کانا بمعنی التمام والنقص ؛ لأنّه یمکن اعتبار التمام فی شیء من حیث الأجزاء فقط ، واعتباره ناقصاً بالنسبة إلی الشروط ، فیقال : «الصلاة صحیحة من حیث الأجزاء ، وفاسدة من حیث الشروط» فإذا اُطلقت «الصحّة» و«الفساد» واُرید منهما التمام والنقص ، فیمکن لحاظ أمر فی معناهما ، فیصحّ إطلاق «الصحّة» و«الفساد» بالإضافة إلی حالات المکلّفین وأصنافهم ؛ فإنّ الصلاة مثلاً مع الطهارة الترابیة ، صحیحة بالنسبة إلی مکلّف ، وفاسدة بالنسبة إلی مکلّف آخر ، أو صحیحة فی حالة دون اُخری .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ استعمال «التامّ» و«الناقص» فی العرف واللغة ، إنّما یکون غالباً فی المرکّب ذی الأجزاء ، والتقابل بینهما تقابل العدم والملکة ، وأنّ غالب استعمال «الصحّة» و«الفساد» ـ بحسب العرف واللغة ـ وإن کان فی صورة وجود مزاج ، والتقابل بینهما تقابل التضادّ ، ولیسا إضافیین ، إلاّ أنّهما فی باب العبادات والمعاملات ، یستعملان فی معنی التمام والنقص ، ویکون التقابل بینهما علی هذا ، تقابل العدم والملکة ، لکن علی عکس مزعمة القوم ، حیث ذهبوا إلی أنّ الصحّة عبارة عن الملکة ، والفساد عدمها ، لما عرفت من أنّ الصحّة أمر عدمی ، والفساد أمر وجودی حسبما فصّلناه ، وعلی هذا الاستعمال تکون الصحّة والفساد
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149 أمرین إضافیین بالنسبة إلی الأجزاء والشروط .
ولا یخفی : أنّ اختلاف الأنظار فی صحّة عبادة أو معاملة وعدمها ، لا یوجب إضافیتهما ؛ لأنّ الأنظار طریق إلی تشخیص الواقع ، فکلّ یخطّئ الآخر ، فما فی مقال المحقّق الخراسانی قدس سره من إثبات إضافیتهما بذلک ، غیر وجیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150