توجیهان عقلیان لاستفادة المفهوم ودفعهما
وأمّا الوجه العقلی لاستفادة المفهوم ، فنذکر منه تقریبین :
التقریب الأوّل : ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره فی «المقالات» وحاصله : أنّ مرکز البحث فی المفهوم ومآله إلی أنّ الظاهر من القضیة ـ تعلیقیة کانت ، أم غیرها ـ هو کونها فی مقام تعلیق سنخ الحکم أو شخصه ؛ بعد الفراغ عن ظهور الشرط فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 220 الانحصار ولو من جهة ظهور دخل خصوصیة العنوان المأخوذ فی حیّز الخطاب فی ترتّب الحکم علیه ؛ جزاء أوغیره ، سنخاً أو شخصاً ، وحینئذٍ یمکن أن یقال : إنّ طبع القضیة ـ باقتضاء ذاتها ـ لیس إلاّ ترتّب الحکم مهملة علی موضوعه ؛ أی لا یقتضی بنفسه نفی الحکم عن غیر مورده ، فلا یکون له مفهوم .
ولکن إذا کانت فی البین جهة زائدة علی ربط الحکم بموضوعه ـ کما فی القضیة الشرطیة ؛ من حیث اقتضاء أداة الشرط ربط الحکم بشرطه زائداً علی ربطه بموضوعه ـ فیمکن أن یقال : إنّ القضیة من هذه الجهة التی هی خارجة عن مدلولها ، لا تقتضی إهمال الجزاء ، بل مقتضی مقدّمات الحکمة تعلیق إطلاق حکمه الملازم لتجریده عن هذه الجهة ، فیبقی حیث الإضافة إلی الموضوع علی طبعه الأوّلی فی القضایا الظاهرة نوعاً فی أنّ ترتّب الحکم علی موضوعه مهملة .
وبعبارة اُخری نقول : إنّ ظهور القضایا نوعاً فی إهمال المحمول بالنسبة إلی موضوعه ، مانع عن الأخذ بأصالة الإطلاق فی مثله ، ولکن لا یمنع ذلک عن الأخذ بأصالة الإطلاق فی سائر الجهات . وبهذه العنایة أیضاً نقول بالمفهوم فی الغایة وأداة الحصر .
وأمّا التوصیف ، فحیث إنّه من شؤون الموضوع ، وکانت نسبة الحکم إلیه کنسبته إلی ذات موضوعه ، لذا صار منشأً للتشکیک فی أصالة الإطلاق من حیث إضافة الحکم إلیه .
وأمّا العاری عن جمیع هذه الاُمور کالألقاب فلیس لها مفهوم ، ولا یکون أحد یدّعیه هنا إلاّ فی مورد قیام قرینة شخصیة خارجیة ، ککونه فی مقام التحدید وأمثاله .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 221 وفیما أفاده قدس سره مواقع للنظر :
منها : ما یظهر منه من أنّ مقتضی ظهور الکلام ، هو أنّ العنوان المأخوذ فی موضوع الحکم ، تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه ، مع أنّه لا یکاد یثبت ظهور الکلام ذلک ، بل المثبت له إنّما هو الإطلاق ومقدّمات الحکمة ، ولذا لو لم نحرز کونه فی مقام البیان لما أمکن استفادة کونه تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه ، کما لا یخفی .
ومنها : ما یظهر منه أیضاً من استفادة الانحصار من ظهور الکلام ، وقد أشرنا آنفاً إلی عدم إمکان استفادة موضوعیته للحکم من ظهور اللفظ ، فما ظنّک باستفادة الانحصار منه؟! وغایة ما تقتضیه مقدّمات الحکمة أنّ العنوان المأخوذ فی لسان الدلیل ، هو تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه ، ولا یکاد یستفاد منها انحصاره فیه ، وقد أوضحنا الأمر فی ذلک آنفاً عند الحدیث عن عدم استفادة الانحصار من إطلاق الشرط أو الجزاء ، فراجع .
ومنها : ما یستفاد منه من أنّ طبع القضیة وقوع القضایا فیها إهمال ، ولعلّ منشأ ما ذکره هو توهّم جعل الأحکام علی موضوعاتها بالمعنی الحرفی ، وکأنّه لم یتفطّن لصور جعل الأحکام علی موضوعاتها بالمعنی الاسمی ، مثل «الکلب نجس ؛ لا یتوضّأ بسؤره» أو «اجتنب عن الخمر النجس» إلی غیر ذلک ، لأنّ «النجس» فیهما عنوان اسمی لنفس الکلب أو الخمر ، لا لشخصهما ، فلا إهمال فیهما ، کما لا یخفی .
ومنها : أنّ مقتضی ما ذکره قدس سره ثبوت المفهوم فی مثل تلک القضایا التی اُلقیت بالمعنی الاسمی مع أنّ الأمر لیس کذلک ، ولم یلتزم قدس سره به ؛ فإنّ غایة ما یستفاد من قوله : «الکلب نجس» مثلاً أنّ عنوان الکلبیة تمام الموضوع للنجاسة ، وأمّا انحصار النجاسة فیه فدون إثباته خرط القتاد .
ومنها : أنّه قدس سره قال : «إنّ فی غیر الثلاثة» الشرطیة ، والغایة ، والحصر «حیث
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 222 إنّه لم یتعلّق فیها سنخ الحکم فلم یکن لها مفهوم ، وأمّا فی الثلاثة فلاشتمال القضیة علی عنایة زائدة ، فیستفاد منها تعلیق سنخ الحکم ، فلها مفهوم» .
فعلی هذا الملاک کلّ الملاک عنده فی استفادة المفهوم ، هو تعلیق سنخ الحکم ، ولازم ذلک ثبوت المفهوم فی کلّ قضیة علّق فیها سنخ الحکم ؛ سواء کانت القضیة من الأقسام الثلاثة ، أو غیرها ، ولم یلتزم به قدس سره مثلاً لا إهمال فی قوله تعالی : « حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْخَمْرُ » أو «الخمر نجس» أو «الکرّ معتصم» ونحو ذلک ، ولم یتعلّق شخص الحکم ، بل تعلّق سنخ الحرمة ، أو النجاسة ، أو الاعتصام .
ومنها : أنّه لو سلّم أنّ فی نوع القضایا إهمالاً ، وتکون فی قوّة الجزئیة ، ولم یکن لمقام البیان دخالة فی ذلک ، فما معنی استفادة المفهوم لو کانت جهة زائدة؟! وذلک لأنّ الظاهر من لفظة : «إذا» الشرطیة مثلاً هو تعلیق الجزاء علی الشرط ؛ وأنّها واسطة ثبوت الحکم للموضوع ، ولا دلالة لها علی کون ما علّق علیه هو سنخ الحکم أو شخصه ، ولیس مقتضی إطلاق مقام البیان إلاّ کون الارتباط غیر مرهون بزمان دون زمان ، فلا یکاد یستفاد منه أیضاً أنّ المعلّق سنخ الحکم .
وبالجملة : حدیث استفادة تعلیق سنخ الحکم لا شخصه من ظهور لفظة أداة الشرط أو مقدّمات الحکمة ، غیر صحیح کما لا یخفی .
ومنها قوله : «إنّ مرکز البحث فی المفهوم هو کون الخطاب المعلّق سنخ الحکم أو شخصه» فإنّ ظاهره أنّه قدس سره بصدد تعیین محلّ النزاع عند القوم ، ولم أجد أحداً منهم إلی الآن عقد البحث کذلک ؛ وقال بالمفهوم بمجرّد کون الخطاب المعلّق سنخ الحکم . نعم قالوا : «إنّ محلّ النزاع بین المنکر ومثبته فی صورة کون الخطاب المعلّق سنخ الحکم ، ولکن قال جمیعهم إنّ استفادة المفهوم إنّما هی من ناحیة العلّیة المنحصرة ، فتدبّر واغتنم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 223 التقریب الثانی : وهو الذی أشار إلیه المحقّق الأصفهانی قدس سره وبعض الأعاظم دام ظلّه وحاصله : أنّ ظاهر أخذ عنوان تلو حرف الشرط ، هو أنّ التالی معلّق علی ذاک العنوان بخصوصه ، لا علیه وعلی شیء آخر علی نحو الاشتراک ؛ حتّی یکون التالی مستنداً إلی الجامع ، وهو خلاف التعلیق ، وإلاّ یلزم صدور الواحد من الکثیر ، مثلاً قولک : «إن جاءک زید فأکرمه» ظاهر فی أنّ المجیء تمام العلّة لوجوب الإکرام ، ولازم ذلک الانحصار بخصوصه ، لا بما أنّه مصداق للجامع بینه وبین أمر آخر ؛ لأنّه لو لم یکن المجیء علّة منحصرة یلزم أن یکون وجوب الإکرام مستنداً إلی الجامع بین المجیئیة وغیرها ، وهو خلاف ظاهر القضیة الشرطیة ، حیث إنّها تقتضی ترتّب التالی علی المقدّم بعنوانه .
وفیه أوّلاً : أنّ العلّیة والمعلولیة التکوینیتین غیر باب موضوعیة شیء للحکم ؛ لوضوح أنّ الموضوع لم یکن موجداً لحکمه ومؤثّراً فیه ، بل غایة ما هناک جعل شیء بحسب الظاهر موضوعاً للحکم ، فحدیث المؤثّریة ساقط ، فلا مورد لجریان قاعدة الواحد .
وبالجملة : قیاس التشریع بالتکوین أورث اشتباهات ، منها جریان قاعدة الواحد فیه ، لما أشرنا من عدم کون العلّیة والمعلولیة فی التشریع علی حذو العلّیة والمعلولیة التکوینیة ـ من صدور أحدهما عن الآخر ـ حتّی یتوهّم جریان قاعدة الواحد ، بل المراد موضوعیته للحکم ، ویجوز بالبداهة دخالة کلّ واحد من الماء
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 224 الجاری والکرّ وماء المطر مستقلاً ـ بعناوینها ـ فی عدم الانفعال بمجرّد ملاقاة النجس ، کما هو کذلک .
وثانیاً : لو سلّم حدیث المؤثّریة فی باب العلل التشریعیة فنقول : إنّ مجری القاعدة إنّما هو فی الواحد البسیط الذی لا تشوبه شائبة الترکیب أصلاً ؛ لا خارجاً ، ولا ذهناً ، ولا وهماً ، کما هو مقرّر فی محلّه ، لا فی مطلق الفاعل .
وثالثاً : لو أغمضنا عن ذلک کلّه فنقول : إنّ الباب باب الدلالة اللفظیة والاستظهار العرفی ، والمتّبع فیه هو الفهم العرفی ، لا التدقیقات الفلسفیة .
ورابعاً : أنّه لا ینقضی تعجّبی کیف تفوّه المحقّق الأصفهانی قدس سره مع تضلّعه فی المعقول : «بأنّه لو اجتمع اثنان یکون المؤثّر الجامع بینهما» مع أنّه لم یکن للجامع وجود فـی الخارج حتّی یکون مؤثّراً فـی شیء ، بل لـه وجـود عقلائـی اعتباری ، فتدبّر .
هذا کلّه فی مفهوم الجملة الشرطیة . وقد أشرنا إلی أنّه لا یصحّ ولا یمکن استفادة المفهوم من نفس الجملة الشرطیة لو خلّیت ونفسها ، ولکن هذا لا ینافی استفادة المفهوم منها لو احتفّت بقرینة حالیة أو سیاقیة ونحوهما ، کما لا یبعد دعوی ذلک فی أکثر الجمل الشرطیة المشتملة علی الحکم ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 225