حکم الشبهة المصداقیة للمخصّص المنفصل المبیّن
وأمّا الشبهة المصداقیة للمخصّص المنفصل المبیّن المفهوم ، فاختلف فی جواز التمسّک بالعامّ فی ذلک ، والحقّ عندنا عدم الجواز أیضاً ، کما لم یجز فی متصلها ؛ وذلک لأنّا قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ صحّة احتجاج المولی علی العبد وبالعکس ، لیست بمجرّد تمامیة أصالة الحقیقة وانعقاد الظهور للکلام ، ولذا لا یصحّ الاحتجاج بکلام من جرت عادته علی المزاح والدعابة مع إحراز الظهور وجریان أصالة الحقیقة ، بل لابدّ من إحراز مطابقة إرادته الجدّیة للاستعمالیة ، فإن کانت فی البین قرینة علی الخلاف ، یحکم بعدم الجدّ بالنسبة إلی ما قامت القرینة علیه ، وعدم تطابقه للاستعمال ؛ وأنّ الاستعمال بنحو العامّ مثلاً کان لمصلحة التقنین ، فعلی هذا إذا ورد : «أکرم کلّ عالم» ولم یتصل به مخصّص ، یحکم بأنّ إرادة المولی تعلّقت بوجوب إکرام کلّ فرد فرد من العلماء ، ثمّ إذا عثر علی مخصّص منفصل نحو «لا تکرم الفسّاق منهم» یحکم بعدم تطابق جدّه لاستعماله ؛ من دون انثلام لظهور شیء من تلک الدوالّ أصلاً ، ولکن حیث إنّ أصالة الجدّ فی المخصّص أقوی من أصالة الجدّ فی العامّ ، یحکم بتقدّمها علیها .
هذا هو السرّ فی تقدیم الخاصّ علی العامّ ، لا لکون الخاصّ أظهر من العامّ ، فضلاً عن کونه نصّاً ؛ لعدم التفاوت فیما یرجع إلی اللفظ ودلالته بالنصّ أو الظهور منهما أصلاً .
ولا یذهب علیک : أنّ الکلام إنّما هو فی العامّ والخاصّ ، لا المطلق والمقیّد ؛ أی فیما علّق الحکم لکلّ فرد من العامّ ثم أخرج عدّة من أفراده من تحته ، لا فیما علّق الحکم بعنوان ثمّ قیّد ذلک العنوان بعنوان کالعالم والعالم العادل ؛ لما أشرنا أنّ مسألة العامّ والخاصّ غیر مربوطة بمسألة المطلق والمقیّد .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 371 والحاصل : أنّ تمامیة الحجّیة لیست بالظهور اللفظی فقط ؛ لعدم الاعتداد به مع القطع به والیقین باستعماله فی معناه الحقیقی ، فضلاً عن إحرازه بأصالة الحقیقة ، بل هو بتطابق الجدّ مع الاستعمال وبعد ورود المخصّص یستکشف أنّ استعماله فی مورد التخصیص لم یکن بنحو الجدّ ، فیدور أمر المشتبه بین کونه مصداقاً للمخصّص ، وبین عدم کونه مصداقاً له ، ومع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد الطرفین .
فظهر : أنّ التمسّک بذیل أصالة الجدّ ، إنّما ینفع فی مورد شکّ فی الجدّ وعدمه ، وأمّا إذا شکّ فی جریان أصالة الجدّ ـ کما فی المقام ـ فلا موضع إلاّ لعدم الحجّیة ، کما هو الشأن فی أصالة الحقیقة ، فإنّه إنّما یتمسّک بها فی إحراز ما إذا شکّ فی الحقیقة وغیرها ، لا فیما إذا کانت الأصالة مشکوکة ، نظیر ما إذا شکّ فی تحقّق بناء العقلاء بنفسه فی مورد ، فإنّه لا سبیل إلی إحرازه ، نعم إذا شکّ فی أمر یعتاده العقلاء ، یسهل إحرازه ببنائهم ، وکم له من نظیر!!
فملخّص المقال : أنّ الجدّ فی العامّ قبل الظفر بالمخصّص ، کان بالنسبة إلی کلّ عالم ؛ أی الکثرة الإجمالیة ، کما کان کذلک بالنسبة إلی کلّ فاسق من العلماء ، وبتقدیم الثانی علی الأوّل یصیر المحصّل واللبّ ، هو انحصار الجدّ فی العالم العادل ، فیشکّ فی اندراج هذا الفرد المشکوک وعدمه ، فلا وجه للتمسّک بالعامّ ، کما لا وجه للتمسّک بالخاصّ .
وقد انقدح ممّا ذکرنا : أنّ الفرق بین الشبهة المصداقیة للمخصّص المتصل والمنفصل ؛ والقول بعدم جواز التمسّک بالعامّ فی الاُولی ، دون الثانیة ؛ بزعم أنّ الظهور فی الاُولی لم ینعقد إلاّ مضیّقاً ؛ وهو العالم غیر الفاسق ، بخلاف الثانیة ، فإنّه بعد الانعقاد وتمامیة الحجّیة ، غیر مفید .
کما انقدح ضعف ما یظهر من المحقّق العراقی قدس سره حیث قال : «إنّ النکتة الوحیدة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 372 فی الاحتجاج هو الظهور» ثمّ أفاد فی وجه التمسّک بالعامّ فی مفروض المسألة ، أنّ ورود المخصّص المنفصل ، إنّما أوجب ابتلاء ظهور العامّ بالنسبة إلی الحکم ، لا الموضوع ؛ لانعقاد ظهوره بالنسبة إلی جمیع ما یندرج تحته ، فیبقی ظهوره بالنسبة إلی الفرد المشکوک اندراجه تحت العامّ بحاله ، فینحدر حکمه نحوه .
وجه الضعف : أنّ مجرّد الظهور اللفظی مع القطع به غیر مفید ، فما ظنّک بإحرازه بأصالة الحقیقة؟! نعم لو انضمّت إلیه أصالة الجدّ یتمّ الاحتجاج .
ذکر وتعقیب
للمحقّق النائینی قدس سره کلام فی وجه عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة ، حاصله : أنّ ذلک فی القضیة الحقیقیة واضح ؛ لأنّ مقتضی أصالة العموم قبل العثور علی المخصّص ، هو أنّ عنوان العامّ تمام الموضوع للحکم الواقعی ، و لا یدخل شیء فی موضوع الحکم غیر عنوان العامّ ، وبعد ورود التخصیص یخرج عنوان العامّ عن کونه تمام الموضوع ، ویصیر جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو عنوان الخاصّ ، وتسقط أصالة العموم بالنسبة إلی ما تکفّله الخاصّ ، فالموضوع لوجوب الإکرام عند ورود «لا تکرم فسّاقهم» بعد قوله : «أکرم العلماء» هو العالم غیر الفاسق ، فلابدّ من إحراز الموضوع بکلا جزئیه ، ولا یکاد یمکن إحراز ذلک بالتمسّک بالعامّ ، کما لم یکد ذلک فیما إذا شکّ فی کونه فرداً للعامّ ؛ لأنّ کلّ دلیل لا یمکن أن یتکفّل وجود موضوعه ، بل إنّما یکون متکفّلاً لإثبات الحکم علی فرض وجود موضوعه .
وبالجملة: الحکم فی القضیة الحقیقیة، مترتّب علی العنوان بما أنّه مرآة لما ینطبق علیه من الخارجیات ، لا علی الأفراد ، فکیف یمکن إحراز حال الفرد المشتبه بالعامّ؟!
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 373 وأمّا فی القضیة الخارجیة ، فربما یتوهّم صحّة التمسّک فیها بالعامّ ؛ بلحاظ أنّ الحکم فیها یرد ابتداءً علی الأفراد بلا توسّط عنوان .
ولکنّ الإنصاف : أنّه فی الخارجیة أیضاً لا یجوز التمسّک بالعامّ ؛ لأنّ کیفیة استعمال العامّ والخاصّ فی الخارجیة علی نهج الاستعمال فی الحقیقیة ، ولا یکون الاستعمال فی الخارجیة علی غیر نحو الاستعمال فی الحقیقیة ، والفرق إنّما هو من جهة اُخری ، کما أشرنا .
ولا ینتقض ما ذکرناه فی الخارجیة بمثل قوله : «أکرم هؤلاء» مشیراً إلی جماعة ، وبعد ذلک قال : «لا تکرم هؤلاء» مشیراً إلی جماعة من تلک الجماعة التی أشار إلیها أوّلاً ، ثمّ شکّ فی شمول «هؤلاء» الثانی لبعض ما شمله «هؤلاء» الأوّل ، لأنّه لا إشکال فی الأخذ بما شمله «هؤلاء» الأوّل فیما عدا المتیقّن خروجه ، وإدراج المشکوک فی الإشارة الاُولی فی وجوب إکرامه ، لأنّ المثال المذکور من قبیل کون المخصّص مجملاً مفهوماً ، لا مصداقاً ، لرجوع الشکّ فیه إلی أصل وقوع الإشارة الثانیة بالنسبة إلی المشکوک من حیث تردّد مقدار الإشارة .
وفیه أوّلاً : أنّا قد أشرنا إلی أنّ الحکم فی العامّ لم یتعلّق بعنوان «العالم» مثلاً حتّی یصیر موضوع الحکم بعد التخصیص بـ «لا تکرم فسّاقهم» العالم غیر الفاسق ، أو العالم العادل ، بل الحکم فیه تعلّق علی الأفراد علی نعت الإجمال ؛ أی تعلّق علی الکثرة الإجمالیة ، وبإضافته إلی العالم مثلاً یفید کثرة هذه الطبیعة ، وبعد التخصیص یفید کثرة العالم غیر الفاسق ، أو کثرة العالم العادل ، ولا یوجب هذا تغییراً فی حریم لفظة «کلّ» ؛ فما أفاده أجنبی عن المقام .
ولکنّه حسن فی نفسه مربوط بباب المطلق والمقیّد ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 374 وثانیاً : أنّه ظهر بما ذکرنا أنّه لا فرق فی ذلک بین القضیة الحقیقیة والخارجیة أصلاً ؛ من حیث إنّ الحکم فیهما معلّق علی الأفراد علی نعت الإجمال ، فما ذکره قدس سره أوّلاً فی التفرقة بین الحقیقیة والخارجیة ، ثمّ إثبات التسویة بینهما من حیث الاستعمال ، إتعاب للنفس من غیر وجه .
وثالثاً : أنّ قوله قدس سره : «إنّ الحکم فی الحقیقیة یترتّب علی العنوان بما أنّه مرآة لما ینطبق علیه» غیر سدید ؛ لأنّ العنوان بما هو لا یکاد یمکن أن یکون مرآة للخصوصیات الفردیة ، وإنّما یحکی عن نفس الطبیعة بلاخصوصیة فردیة .
ورابعاً : أنّه لو أوجب التخصیص تعنون العامّ ، یلزم أن یری سرایة إجمال المخصّص المنفصل إلی العامّ ، مع أنّه غیر ملتزم به .
وخامساً : أنّ لازم مرآتیته لما ینطبق علیه ، هو أن تکون الأفراد موضوعاً للحکم ، فإنّ المحکوم علیه علی ذلک هو المرئی ، لا المرآة ؛ وهذا منافٍ لقوله قدس سره : «إنّ تمام الموضوع فی العامّ قبل التخصیص هو طبیعة العالم ، وبعد التخصیص العالم غیر الفاسق ، أو العالم العادل » فبین کلامیه تهافت ، فتدبّر .
ولا یخفی علیک ما فی توهّم : أنّ «أکرم کلّ عالم» مثلاً حیث إنّه لم یتعلّق بالعنوان ، فینحلّ إلی قضایا شخصیة عدیدة بعدد رؤوس العلماء .
وذلک لأنّ لفظة «کلّ» تدلّ علی الکثرة الإجمالیة ، لا التفصیلیة ، وبإضافتها إلی «العالم» مثلاً تفید تکثیر تلک الطبیعة إجمالاً ، ولا تکون لتلک الجملة إلاّ ظهور واحد لا انحلال فیه أصلاً .
وبالجملة: العامّ الاُصولی برزخ بین القضیة الطبیعیة، والقضیة الدالّة علی الکثرات تفصیلاً ؛ لأنّه علّق الحکم فیها علی الکثرة الإجمالیة ، وبتخصیص واحد تخرج کثرات ، فـ «أکرم کلّ عالم» مثلاً قضیة واحدة یراد منها ـ بإرادة واحدة تشریعیة ـ
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 375 إکرام کلّ عالم ، لا المجموع من حیث المجموع ، ولا ینحلّ إلی قضایا عدیدة ، وإلاّ یلزم أن یکون فی قول القائل : «کلّ نارٍ باردة» إخبارات کاذبة متظافرة بعدد النیران المحقّقة والمقدّرة ، لا خبر واحد ، والوجدان وفهم العرف والعقلاء ، شهود صدق علی خلافه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 376