حکم النهی بالنسبة إلی الأفراد الطولیة
ولا یخفی : أنّ ما ذکرناه إنّما هو فی دلالة النهی علی ترک جمیع الأفراد العرضیة للطبیعة ، وأمّا بالنسبة إلی الأفراد الطولیة وأنّه إذا عصی وأتی بمصداق من الطبیعة المنهیّ عنها ؛ فهل یجوز أن یأتی به ثانیاً وثالثاً وهکذا ، أم لا؟
قال المحقّق الأصفهانی قدس سره فی حلّ ذلک ما حاصله : أنّ المنشأ حقیقة لیس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبیعة کذلک ، بل سنخ الطلب الذی لازمه تعلّق کلّ فرد من الطلب بفرد من طبیعة العدم عقلاً ، وتعلّق کلّ فرد من الطلب بفرد من العدم تارة : بلحاظ الحاکم ، واُخری : بحکم العقل لأجل جعل الملازمة بین سنخ الطلب وطبیعی العدم بحدّه .
وبالجملة : ینشئ طبیعی الطلب ویعلّقه بطبیعی العدم ، فکأنّه أوقع الملازمة بین الطلب والعدم ، فالعقل یحکم بأنّ کلّ مصداق من العدم له نهی یخصّه ، فإن عصی وأتی بمصداق منه یکون الطلب باقیاً بحاله .
وفیه : ـ مضافاً إلی أنّه دعوی بلا برهان ـ أنّه أسوأ ما قیل فی المقام ؛ لأنّ إیقاع البعث أو الزجر ـ نظیر إیقاع الإشارة فی البعث ـ یکونان إیقاعین جزئیین ، فکما أنّ الإشارة إیقاع جزئی ، فکذلک البعث أو الزجر إیقاع جزئی ، غایة الأمر أنّه فی إشارة الأخرس یکون تکوینیاً ، دون ما هنا ، فحدیث أنّ المنشأ سنخ الطلب لاشخصه ، لا أساس له .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 17 ثمّ إنّه لو أراد أنّ الماهیة وإن وضعت لإیقاع البعث والزجر الجزئیین ، لکنّها فی النواهی لم تستعمل فی ذلک ، بل استعملت فیها فی إیقاع نفس الطبیعة الکلّیة ، ولازمه العقلی الانحلال .
ففیه : أنّه لو تمّ فغایته أن تکون أمراً مجازیاً ، فلا یصار إلیه إلاّ بالقرینة العامّة ، وهی غیر موجودة فی المقام .
وبالجملة : دیدن العقلاء غیر مرهون بالقرینة ، کما لا یخفی .
ومع الالتزام بذلک فالأهون ما ذهب إلیه المحقّق النائینی قدس سره ـ وإن کان علی خلاف التحقیق ـ من أنّ المنشأ وإن کان شخص الطلب ، لکنّه حیث تعلّق بالطبیعة ، نلتزم بالعموم الاستغراقی فی جانب النهی حتّی ینحلّ النهی بتبعه .
نعم ، یرد علیه عدم استعمال المادّة فی الأفراد وجداناً ، کما لم تستعمل الهیئة فی الطبیعی علی ما ادّعاه المدّعی ، فتدبّر .
ولبعض الأعاظم دام ظلّه کلام فی مقتضی النهی بالنسبة إلی کلّ من الأفراد العرضیة والطولیة ، لکنّه لا یخلو من النظر ؛ لأنّه قال : «إنّ الأمر والنهی یشترکان فی أنّ متعلّقهما وجود الطبیعة ، لکنّهما یختلفان بحسب الحقیقة ، والمبادئ ، والآثار ، فحقیقة الأمر هو البعث والتحریک نحو المتعلّق ، ویعبّر عنه بالفارسیة (وا داشتن) وحقیقـة النهـی عبارة عـن الزجر والمنع عـن المتعلّق ، ویعبّر عنـه بالفارسیـة (باز داشتن)
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 18 ومقتضی البعث نحو وجود الطبیعة تحقّق الامتثال بإیجاد فردٍ مّا ، فیسقط الأمر بذلک ، ومقتضی الزجر عن وجودها کون الإتیان بکلّ فرد عصیاناً علی حدة ؛ إذ کلّ فرد من الأفراد وجود للطبیعة ، وقد زجر عنه المولی من جهة کون الوجود مشتملاً علی مفسدة نشأت من قبلها المبغوضیة ، فهناک وإن کان نهی واحد متعلّق بوجود الطبیعة ، ولکنّه یَنحلّ إلی نواهٍ متعدّدة بعدد الأفراد المتصوّرة للطبیعة ، وبعددها یتصوّر له الامتثال والعصیان . وبالجملة : اقتضاء النهی ترک کلّ فرد فرد ، إنّما هو لأمرین : کون المتعلّق الطبیعة اللابشرط ، وکون النهی عبارة عن الزجر عن وجودها ، فلو لم یکن واحد منهما لما اقتضی النهی ذلک» .
وقال دام ظلّه : فی مقتضی النهی بالنسبة إلی الأفراد الطولیة : «إنّ سقوط التکلیف إمّا بالامتثال ، أو بانتفاء الموضوع ، أو موت المکلّف ، ولا یمکن أن یکون العصیان مسقطاً للتکلیف وإن اشتهر ذلک بینهم ؛ لأنّ العصیان بما هو عصیان ، لیس فیه ملاک الإسقاط ، وسقوط الموقّتات بمضی أوقاتها ـ إذا ترکها العبد فی أوقاتها ـ إنّما هـو مـن جهة أنّـه لا یقـدر علـی إتیانها بعـد مضیّ الوقت ، وتخرج عـن تحت قدرته، لا من جهة العصیان ، فبعد إیجاد فرد من الطبیعة المنهیّ عنها یتحقّق عصیان للنهی ، ولکنّه مع ذلک یقع الفرد الثانی والثالث إلی غیر ذلک ، مصادیق للعصیان لو اُتـی بها ، ویقع ترک کلّ واحـد منها امتثالاً علـی حـدة لو ترکت بداعی نهی المولی . . . » .
أقول أوّلاً : أمّا ما أفاده دام ظلّه بالنسبة إلی الأفراد العرضیة ، ففیه : أنّ استفادة ذلک لیست مرهونة بکون مدلول النهی الزجر عن الطبیعة ، کما یراه دام ظلّه وهو
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 19 الحقّ عندنا کما تقدّم ، بل لو قیل بأنّ مفاد النهی طلب الترک یستفاد ذلک أیضاً ، مثلاً لو قال المولی لعبده : «أطلب منک ترک شرب الخمر» یفهم منه لزوم ترک جمیع أفراد طبیعة الخمر ، فما یراه من أنّ استفادة ترک جمیع الأفراد العرضیة من ناحیة کون مدلول النهی الزجر عن الطبیعة ، کما تری .
وثانیاً : أنّ استفادة ذلک لم تکن مختصّة بالنهی ، أو اشتمال وجود الطبیعة المنهیّ عنها علی المفسدة ، کما زعمه دام ظلّه بل یجری فی الإخبارات أیضاً .
وبالجملة : قد أشرنا آنفاً إلی أنّ فهم العرف والعقلاء من وقوع الماهیة تلو السلب ـ نفیاً کان أو نهیاً ـ هو عدم تحقّق فرد منها فی الخارج فی النفی ، والزجر عن إیجاد فرد منها فی النهی .
وأمّا ما أفاده بالنسبة إلی الأفراد الطولیة ـ وهو عدم سقوط النهی بعصیانه بإیجاد فرد من الطبیعة المنهیّ عنها ـ فلا نسلّمه إذا کان متعلّق النهی عین متعلّق الأمر ؛ بأن کان متعلّق النهی صرف وجود الطبیعة ، وحیث إنّه غیر قابل للتکثّر ، فیتحقّق عصیانه بصرف وجود الطبیعة المنهیّ عنها ، ویسقط المنهیّ عنه حقیقة ، فلا بدّ من تحدید حدود متعلّق النهی ، وأنّه هل هو صِرف وجود الطبیعة ، أو شیء آخر؟
مضافاً إلی أنّه لو کان متعلّق التکلیف فی الأمر والنهی ، الطبیعة اللابشرط وصرفَ وجودها ، وتوجّه خطاب الأمر وخطاب النهی لشخص فی آنٍ واحد مقتضٍ لامتثالهما فی آنٍ واحد أیضاً ، فلازمه أن یسقط کلا الخطابین ، فکیف یصحّ أن یقال بصدق الامتثال بأوّل وجود الطبیعة فی جانب الأمر دون النهی؟!
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 20 فظهر ممّا ذکرنا : أنّ النکتة فی الفرق بین الأمر المتعلّق بالطبیعة والنهی المتعلّق بها ، لیست ما ذکره الأعلام ، بل النکتة الوحیدة فی ذلک هی الفهم العرفی المتّبع فی أمثال المقام فی کلتا المرحلتین ؛ فإنّهم یرون أنّ الطبیعی یوجد بوجود فرد ما ، وینعدم بعدم جمیع الأفراد ، ومعروفیة هذا المعنی فی أذهانهم بنحو ربما یوجد فی کلمات بعض الفلاسفة أیضاً ، ویرون انحلال النهی المتعلّق بالطبیعة إلی نواهٍ ؛ بحیث لو اُتی بالمنهیّ عنه لا یرون سقوطه .
إن قلت : إنّ هـذا هـو المعنی العرفـی الذی صرّح بـه المحقّق الخراسانی قدس سره ولم تقبلوه منه!!
قلت : المحقّق الخراسـانی قدس سره أراد إثبات ذلک مـن ناحیـة حکم العقـل ، وقد عرفت ضعفه ، وأمّا نحن فنرید إثبات ذلک بالتشبّث بالفهم العرفی والنظر العقلائی ، وکم فرق بینهما!! وهم یرون انحلال النهی إلی نواهٍ متعدّدة ، فیفهمون مبغوضیة الأفراد ، بعکس ما یراه المحقّق النائینی قدس سره من أنّ مبغوضیة الطبیعی تَسری إلی الأفراد ، کما سبق ، ومن غیر فرق فی ذلک بین کون النهی زجراً ، کما یراه بعض الأعاظم دام ظلّه ، أو طلب الترک ، بل یجری ذلک فی الطبیعة الواقعة تلو السلب ؛ نفیاً کان ، أو نهیاً ، وإنکار الفهم العرفی بالنسبة إلی ما ذکرنا فی المرحلتین ، لعلّه مکابرة . وأمّا معرفة سرّ فهم العقلاء فلا یضرّ جهله بعد ذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 21 وبالجملة : لم یتمّ شیء ممّا أفادوه فی افتراق الطبیعی الواقع تلو النهی ، عن الطبیعی الواقع تلو الأمر ، فالأولی أن یتشبّث فی ذلک فی جانب النهی ؛ بذیل فهم العرف والعقلاء المُتبع فی أمثال المقام ، فإنّهم ـ کما أشرنا إلیه غیر مرّة ـ یرون بالنسبة إلی الأفراد العرضیة ، أنّ الطبیعی ینعدم بانعدام جمیع الأفراد ، وبالنسبة إلی الأفراد الطولیة ، یرون أنّ النهی إذا تعلّق بطبیعة فینحلّ إلی نواهٍ ، فإذا عصی وأتی بالمنهیّ عنه فلا یرون سقوطه ، بل یرون أنّه إذا أتی بالمنهیّ عنه مراراً ، استحقّ العقوبة بعدد الأفراد . ولا یهمّنا بعد ذلک عدم معرفة سِرّ ذلک منهم ، فافهم ، وکن من الشاکرین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 22