المورد الثانی : فیحکم هذه الأقسام
حکی بعضهم ـ فی غیر صورة استفادة المفهوم من الأولویة القطعیة ـ الإجماع والاتفاق علی تقدیم المفهوم الموافق علی العامّ وتخصیص العامّ به مطلقاً ؛ ولو کانت النسبة بین العامّ والمفهوم ، عموماً من وجه .
ولکن لا أری اتفاقهم علی التقدیم مطلقاً نعم یکون ذلک فیما لوکان المفهوم الموافق أخصّ مطلقاً من العامّ ، ولعلّ منشأ توهّم الإطلاق إطلاق القول فی تقدیم المفهوم الموافق علی العامّ ، ولم یتفطّن إلی أنّ ذلک إنّما هو حکم المفهوم الأخصّ .
وإن أبیت عمّا ذکرنا فلا نتحاشی عن الاتفاق غیر الکاشف عن رأی المعصوم علیه السلام لما أشرنا من أنّ الإجماع فی أمثال هذه المسائل ـ علی تقدیر ثبوته ـ مبنیّ علی القواعد العرفیة والاعتبارات العقلائیة .
إذا عرفت هذا فنقول : لوکان المفهوم الموافق أخصّ مطلقاً من العامّ ، فواضح أنّه یقدّم علی العامّ ؛ قضاءً لحقّ الدلیلین المتخالفین اللذین یکون أحدهما أخصّ من الآخر ، فکما یقدّم الأخصّ علی العامّ إذا کان منطوقاً ، فکذلک إذا کان مفهوماً ؛ لوحدة الملاک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 472 وبالجملة : المفهوم الموافق بمنزلة ظاهر دلیل اُلقی إلی الشخص ، فکما أنّه یخصّص العامّ بظاهر دلیل الخاصّ ، فکذلک ما هو بمنزلته .
وممّا ذکرنا یظهر حال ما لوکانت النسبة بین المفهوم الموافق والعامّ ، عموماً من وجه ، فإنّه یعامل معهما معاملة الدلیلین المتعارضین اللذین یکون بین منطوقیهما عموم من وجه .
وأمّا لو استفید المفهوم من الأولویة القطعیة ، فربما یشکل جریان حکم سائر أقسام المفهوم الموافق فیه ، بل یقدّم المفهوم علی العامّ مطلقاً وإن کانت النسبـة بینهما عموماً من وجه ؛ لأنّه بعد امتناع رفع الید عقلاً عن المفهوم فقط ـ لأدائه إلی التفکیک بین الملزوم واللازم ـ یدور الأمر بین رفع الید عن العامّ ، وبین رفع الید عن المفهوم والمنطوق ، ومعلوم أنّه لا یصار إلی الثانی ؛ لأنّه تصرّف فی دلیلین لا یکون لأحدهما ـ وهو المنطوق ـ مزاحمة مع العامّ ، فیتعیّن التصرّف فی العامّ وتخصیصه بغیر مورد المفهوم .
وفیه : أنّه إذا کان بین الشیئین تلازم ، وکان أحدهما معارضاً لشیء ، یکون التعارض أوّلاً وبالذات بینه وبین ذاک الشیء و بِتَبعِ ذلک یقع التعارض بین ذلک الشیء وما یکون ملازماً له ، ففیما نحن فیه حیث یکون بین المنطوق والمفهوم ملازمـة ، وکان التعارض أوّلاً وبالذات بین المفهوم والعامّ ، ولکنّه ثانیاً وبالعرض بین المنطوق والعامّ ، فنفی التعارض بین المنطوق والعامّ لا وجه له ، فإذن لو فرض تقدّم العامّ علـی المفهوم لمرجّح ـ لکونـه أظهر فی عمومـه مـن اشتمال القضیـة علـی المفهوم ـ لکشف عن عدم تعلّق الحکم بالمنطوق بمقداره ؛ لأنّه لولا ذلک للزم التفکیک
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 473 بین المتلازمین فظهر أنّ رفع الید عن المنطوق لا یکون بلاوجه .
وبالجملة : رفع المحذور کمایمکن بتخصیص العامّ بالمفهوم ، کذلک یمکن برفع الید عن حکم المنطوق والمفهوم ، بل المعارضة وإن کانت ابتداءً بین العامّ والمفهوم ، ولکن لمّا کان رفع الید عن اللازم مستلزماً لرفع الید عن ملزومه ، یقع التعارض بینهما عرضاً ، فتدبّر .
وقال المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله : أنّ التعارض دائماً یکون بین المنطوق والعامّ ، ولا یمکن أن یکون المفهوم معارضاً للعامّ من دون معارضة منطوقه ؛ لأنّا فرضنا کون المفهوم موافقاً له ، وأنّه سیق للدلالة علیه ، ومع هذا کیف یعقل أن یکون المنطوق أجنبیاً عن العامّ وغیر معارض له ، مع کون المفهوم معارضاً له؟! فالتعارض فی المفهوم إنّما یقع ابتداءً بین المنطوق والعامّ ویتبعه وقوعه بین المفهوم والعامّ . وبالجملة کلّما فرض التعارض بین المفهوم الموافق والعامّ ، فلا محالة یکون التعارض بین المنطوق والعامّ ولابدّ أوّلاً من علاج التعارض بین المنطوق والعامّ ، ویلزمه العلاج بین المفهوم والعامّ .
وفیه : أنّ ما ذکره غیر مستقیم علی إطلاقه ؛ لأنّه ربما لا یکون بین المنطوق والعامّ تعارض أبداً ، ولکن یکون بین مفهومه والعامّ تعارض ، کقولک : «أکرم خدّام النحو یین» وفرضنا أولویة إکرام علماء النحو من هذا الدلیل ، مع قیام دلیل علی حرمة إکرام الصرفیین ، فإنّ من الواضح أنّه لا تنافی بین الحکم المتعلّق بخدّام النحویین ، وبین الحکم المتعلّق بعدم إکرام الصرفیین ؛ حتّی یقع التعارض بینهما ، ولکن مع ذلک فبین مفهومه الموافق ـ وهو وجوب إکرام النحویین ـ وبین «لا تکرم
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 474 الصرفیین» عموم من وجه ؛ لافتراق المفهوم فی النحوی غیر الصرفی ، والعامّ فی الصرفی غیر النحوی ، وقد یجتمعان ، کالصرفی النحوی ، فالتعارض أوّلاً وبالذات إنّما هو بین المفهوم والعامّ . نعم ، یقع التعارض ثانیاً وبالعرض بین المنطوق والعامّ أیضاً ؛ بلحاظ أنّه إذا قدّم العامّ علی المفهوم ، ترفع الید عن المنطوق بمقداره ، فلابدّ من علاج التعارض بینهما؛ لکون التعارض فیه أوّلاً وبالذات، وهو هنا عبارة عن المفهوم والعامّ.
فظهر : أنّ قوله قدس سره : «إنّ التعارض دائماً بین المنطوق والعامّ» غیر وجیه ، بل ربما لا یکون بین العامّ والمنطوق تعارض أصلاً ولوعرضاً ، مع معارضة مفهومه له ، کقوله تعالی :«وَ لاَتَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ» ، علی تقدیر کون المنطوق معنی کنائیاً ، فلم یثبت الحکم للمنطوق حسب الفرض ، فإن کان عموم علی خلاف المعنی المکنیّ به ، یقع التعارض بین العامّ والمفهوم ، وأمّا المنطوق فحیث إنّه لم یثبت فیه حکم ، فلا یقع التعارض بینه وبین العامّ أصلاً . هذا إذا لم یکن بین المنطوق والعامّ تعارض ، بل کان التعارض مقصوراً علی المفهوم والعامّ .
وأمّا إذا کان بین المنطوق والعامّ تعارض بالذات ، فإن کان المنطوق أخصّ مطلقاً فیقدّم ، ویتبعه تقدّم المفهوم علی العامّ أیضاً مطلقاً ولو فیما إذا کانت النسبة بین المفهوم والعامّ ، عموماً من وجه .
والسرّ فی ذلک : هو أنّ المفهوم لازم للمنطوق بحکم العقل ، فلا یعقل التفکیک بینهما وجوداً ، فإذا تقدّم المنطوق الخاصّ علی العامّ ببناء العقلاء وتقدّم الخاصّ فی محیط التقنین علی العامّ ، فلابدّ وأن یقدّم المفهوم أیضاً ، وإلاّ یلزم التفکیک بین المتلازمین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 475 وبالجملة : لو لم یقدّم المفهوم علی هذا التقدیر علی العامّ ، یلزم أحد أمرین! إمّا التفکیک بین المتلازمین لوخصّصنا العامّ بالمنطوق دون المفهوم ، أو عدم تقدیم الأخصّ المطلق علی العامّ إذا لم یخصّصه بالمنطوق أیضاً ، والأوّل محال عقلاً ، والثانی مخالف لبناء العقلاء ، ومخالف لما هو ثابت فی محیط التقنین من تقدیم الخاصّ علی العامّ ، فیجب تقدیم المفهوم علی العامّ بتبع تقدّم المنطوق .
وأمّا إذا کانت النسبة بین العامّ والمنطوق عموماً من وجه ، فإن رجح جانب العامّ فلاکلام ، وأمّا إن رجح جانب المنطوق فیقدّم مفهومه علی العامّ أیضاً حتّی وإن کانت النسبة بین المفهوم والعامّ ، عموماً من وجه ، وکان الترجیح بملاحظة المفهوم للعامّ ، والوجه فیه ما ذکرناه فی تقدیم مفهوم الأخصّ المطلق ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 476