المورد الثالث : فی القضیة الحقیقیة والخارجیة والفرق بینهما
حیث إنّ حلّ الإشکال فی بعض الصور مبنیّ علی بیان القضیة الحقیقیة ، وإنّ المختار فی المسألة هو الجواز وکان ذلک علی ذمّة القضیة الحقیقیة ، فلا بأس بالإشارة إجمالاً إلی بیان حالها ، وحال القضیة الخارجیة ، وبیان الفرق بینهما .
فنقول : تشترک القضیة الحقیقیة والخارجیة ؛ فی أنّ المقسم لهما القضیة الکلّیة البتّیة المعتبرة فی العلوم ، غایة الأمر أنّ العنوان فی الخارجیة قد اُخذ بنحو لا ینطبق إلاّ علی الموجود فی الحال ، کما إذا قیّد مدخول أداة العموم بنحو لا ینطبق إلاّ علیها ، کقولک : «أکرم کلّ موجود فی الحال» و«کلّ من فی هذا المعسکر کذا» سواء کان الحکم علی أفراد عنوان ذاتی ، أو انتزاعی ، أو عرضی ، فلفظة «کلّ» مثلاً لاستغراق أفراد مدخولها ، والعنوان التالی لها بعد التقیید المذکور ، لا ینطبق إلاّ علی الأفراد المحقّقة ، وواضح أنّ مجرّد انطباقه علی خصوص الموجودین فی الخارج لا یصیّرها جزئیاً وشخصیاً ، نظیر الکلّی المنحصر نوعه فی فرد .
وأمّا العنوان المأخوذ فی القضیة الحقیقیة ، فهو ینطبق علی الموجود فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 449 الحال ، والمتصرّم ، والآتی ، کقولک : «کلّ نار حارّة» فإنّ لفظة «النار» تدلّ علی نفس الطبیعة القابلة للصدق علی الأفراد ، لا بمعنی کون الطبیعة حاکیة عنها ، بل لا تدلّ إلاّ علی نفس الطبیعة ، وهی قابلة للصدق علی الأفراد ، ومتحدة معها فی الخارج ، ولفظة «کلّ» دالّة علی استغراق أفراد مدخولها ؛ من غیر أن تدلّ علی الوجود أو العدم .
فلفظة «کلّ» وأشباهها من أیّة لغة کانت ، لم توضع للأفراد بقید الوجود ، أو فی حال العدم ، ولذا یصحّ أن یقال : «إنّ کلّ فرد من الطبیعة إمّا موجود ، أو معدوم» بلا تأوّل ، وإضافة «کلّ» إلی الطبیعة تدلّ علی استغراق مدخولها ، ولمّا لم تتقیّد الطبیعة بما یجعلها منحصرة الانطباق علی الأفراد المتحقّقة ، فلا محالة یکون الحکم علی فرد من الطبیعة فی الماضی ، والحال ، والاستقبال ؛ کلّ فی موطنه ، فالعقل یحکم بامتناع الصدق علی المعدوم ، فلم تکن الطبیعة طبیعة ولا أفرادها أفراداً حال العدم ، فلا محالة یکون الحکم فی ظرف صدق الطبیعة علی الأفراد ، «فکلّ نار حارّة» إخبار عن مصادیق النار بدلالة تصدیقیة ، والمعدوم لیس مصداقاً لشیء ، کما أنّ الموجود الذهنی لیس فرداً بالحمل الشائع ، فینحصر الصدق فی ظرف الوجود الخارجی من غیر أن یکون الوجود قیداً ، ومن غیر أن یفرض للمعدوم وجود ، أو ینزّل منزلة الوجود ، ومن غیر أن تکون القضیة متضمّنة للشرط .
والوجه فی هذا : أنّ تلک التکلّفات ـ مع کونها خلاف الوجدان فی إخباراتنا ؛ ضرورة أنّ کلّ من أخبر بأنّ النار حارّة ، لا یخطر بباله الأفراد المعدومة ، فضلاً عن تنزیلها منزلة الوجود ، أو الاشتراط بأنّه إذا وجدت کانت کذلک ـ ناشئة من تخیّل أنّ للطبیعة أفراداً معدومة ، وتکون الطبیعة صادقة علیها حال العدم ، ولمّا لم یصدق علیها الحکم لابدّ من تنزیلها منزلة الموجود ، أو اشتراط الوجود فیها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 450 فظهر : أنّ القضیة الحقیقیة ، قضیة کلّیة بتّیة شاملة لغیر الموجود فی الحال ، لا قضیة شرطیة غیر بتّیة ، والتعبیر بالفرض والتقدیرـ کما ربما یوجد فی کلمات بعض الحکماء : «بأنّه کلّ ما قدّر وتحقّق فهو کذا» ـ فإنّما هو لتیسیر التعلیم والتعلّم ، لا بیان ماهیة القضیة الحقیقیة . ولعلّ هذا أورث اشتباه غیر المتدرّب فی فنّ المعقول ؛ فتخیّل أنّ القضیة الحقیقیة نفسها عبارة عن ذلک .
فظهر : أنّ العنوان المأخوذ تلو لفظة «کلّ» فی الخارجیة ، مقیّد بنحو لا ینطبق إلاّ علی الموجود فی الحال ، وأمّا فی الحقیقیة فإمّا أن لا یکون مقیّداً بقید ، کقولک : «کلّ عالم کذا» أو لا یکون مقیّداً بقید یوجب انحصاره فی الموجود فی الخارج فی الحال وإن کان مقیّداً بغیره ، نحو قولک : «کلّ عالم عادل کذا» .
نعم ، أشرنا إلی أنّه حیث إنّ ترتّب المحمول ، إنّما هو علی مصداق من الطبیعة بحمل الموضوع علیه بالحمل الشائع لاغیره ، فما لم یتحقّق الموضوع خارجاً لا یترتّب المحمول والحکم علیه ؛ لأنّ الموجود الذهنی لا یصدق علیه عنوانه وطبیعیه بالحمل الشائع ، إذ المعتبر فی الحمل الشائع ـ مع اندراج الفرد تحت مفهوم ذلک الطبیعی والجامع ـ هو ترتّب آثاره المطلوبة والمترتّبة علی ذلک الفرد ، وواضح أنّ الموجود الذهنی وإن صدق علیه مفهوم الطبیعی باعتبار ما ، إلاّ أنّه لا یوجب ترتّب آثار الطبیعی ، فانحصر الصدق فی ظرف الوجود الخارجی ؛ من غیر أن یکون الوجود قیداً ، ومن غیر أن یفرض للمعدوم وجود ، ومن غیر أن تکون القضیة متضمّنة للشرط ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 451