حال الفتوی المستندة إلی الأمارات الشرعیّة
الثالثة : ما لو کان المستند فی فتواه الاُولی أمارة شرعیّة تأسیسیّة من الشارع، ولسان الدلیل الدالّ علیها لسان الکاشفیّة والطریقیّة إلی الواقع، کما لو فرض أنّ حجّیّة خبر الواحد کذلک، ثمّ ظهر الخلاف بالقطع، فمقتضی القاعدة أیضاً عدم الإجزاء، فإنّ المفروض أنّ اعتبارها شرعاً إنّما هو لأجل أنّها طریق إلی الواقع، جعلها
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 691 تسهیلاً علی المکلّفین؛ لأنّ إیجاب الاحتیاط موجب للعسر والحرج واختلال النظام، وهی لا تغیّر الواقع عمّا هو علیه، بل هو باقٍ بحاله، فمع حصول القطع بکذبها، یعلم بقاء المأمور به بحاله لم یتغیّر عمّا هو علیه فی الواقع، فوجبت الإعادة أو القضاء والإتیان بالمأمور به الواقعی، نعم هی عذر للمکلّف مالم یقطع بالخلاف، وأمّا مع انکشاف الخلاف فلا.
هذا، ولکن استدلّ للإجزاء فی هاتین الصورتین بوجوه :
الوجه الأوّل : أنّ إمضاء الشارع للأمارة العقلائیّة، أو جعله لها حجّة تأسیساً، یستلزم عدم مطلوبیّة الأحکام الواقعیّة علی کلّ حال للشارع، وعدم تعلّق إرادته الجدّیّة بها کذلک، وإلاّ لم یصحّ جعلها أو إمضاؤها، مع أنّها ربّما لا تصادف الواقع، بل یلزم إیجاب الاحتیاط حینئذٍ لحفظ الواقع؛ ولو أوجب العسر والحرج الشدیدین واختلال النظام، فجعل الشارع لأمارة، أو إمضاءه بناء العقلاء علی العمل بها، یستلزم رفع الید عن الأحکام الواقعیّة عند عدم إصابة الأمارة للواقع وعدم جزئیّة الجزء أو الشرط، مع قیام الأمارة علی عدمها، فصلّی کذلک، ثمّ انکشف الخلاف، وهو المراد من الإجزاء، بخلاف ما لو کان مستند الحکم الأوّل هو القطع؛ حیث إنّه لایتصرّف فیه الشارع، ولا یمکنه الردع عن الجری العملی علی طبقه.
أقول : المرجع فی المقام هو نظر الموالی العرفیّة فی أوامرهم التأسیسیّة أو الإمضائیّة، ولاریب فی أنّ حجّیّة الأمارات عندهم، إنّما هی لضعف احتمال الخلاف فیها وإلغائه وعدم الالتفات إلیه، وأنّ مؤدّاها عندهم هو الواقع، فمع ظهور الخلاف وعدم موافقتها للواقع، لایُجزی المأتیّ به علی طبقها عن الواقع، ومسلک الشارع أیضاً هذا المسلک فی الأمارات التأسیسیّة والإمضائیّة، فإنّ الواقعیّات مطلوبة للشارع ومرادة له جدّاً، لکن حیث إنّه عارضت المصلحةَ الواقعیّة مفسدةُ إیجاب الاحتیاط، أوجب العمل بالأمارة لا الاحتیاط؛ لغلبة مطابقتها للواقع، فالحکم الواقعی باقٍ علی
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 692 مطلوبیّته له فی صورة المخالفة أیضاً، لکن یلزم رفع الید عنها فی هذه الصورة؛ فی تلک الحال حیث إنّه لا سبیل له سوی ذلک، نظیر رفع الید عن وجوب إنقاذ أحد الغریقین، مع بقاء مطلوبیّته وبقاء مصلحته؛ حیث لا محیص عنه، ولذا لو تمکّن بعد ذلک من إنقاذه وجب، ومقتضی ذلک هو وجوب الإعادة أو القضاء؛ والإتیان بالتکلیف الواقعی عند انکشاف الخلاف.
الوجه الثانی : أنّ الظاهر من الأدلّة الدالّة علی اعتبار الأمارات ـ تأسیساً أو إمضاءً ـ هو الإجزاء، فإنّ لسانها کلسان أدلّة الاُصول، فکما أنّ مفاد أدلّة الاُصول هو ترتیب آثار الطهارة والحلّیّة علی مؤدّاها، کذلک أدلّة اعتبار الأمارات، فإنّ إیجاب العمل بها وإن کان طریقیّاً، لکن مرجعه إلی إیجاب المعاملة معها معاملة الواقع، وأنّ کیفیة العمل بالعبادة هو ما أدّت إلیه الأمارة، فلو قامت الأمارة المعتبرة علی عدم مانعیّة لبس غیر المأکول لحمه، فمرجع إیجاب العمل بها عدم مانعیّة ذلک فی الصلاة واقعاً تعبّداً، وأنّ الصلاة معه مصداق تعبّدیّ لها.
أقول : لو فرض ورود دلیل تعبّدیّ شرعیّ دالّ علی إیجاب العمل بأمارة ـ مثل خبر الثقة ـ مثلاً تأسیساً، فالمتبادر منه ـ فی المحیط الذی لایکون اعتباره فیه، إلاّ لأجل أنّه کاشف عن الواقع ولو کشفاً ناقصاً ـ هو أنّ اعتباره وإیجاب العمل به من الشارع، إنّما هو لجهة کشفه عن الواقع وحیثیّة طریقیّته إلیه، لأجل تحصیله، لا أنّه تصرّفٌ فی الواقع وتبدیل له عمّا هو علیه، أو لأنّه تعبّد محض، وحینئذٍ فمع کشف الخلاف فالواقع باقٍ علی ما هو علیه، ومقتضاه الإعادة أو القضاء ووجوب الإتیان به، وهو المراد من عدم الإجزاء فی المقام. هذا بحسب الفرض.
لکن تقدّم مراراً : أنّه لیس فی الأدلّة الشرعیّة والأخبار، ما یدلّ علی حجّیّة مثل خبر الواحد تأسیساً، بل لیس مفادها إلاّ إمضاء طریقة العقلاء وبنائهم علی العمل به، وأنّ مثل قوله علیهم السلام: «فلان ثقة» لایدلّ علی التأسیس، وآیة النبأ وأمثالها
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 693 ردع عن العمل بخبر الفاسق، ولا تدلّ علی إیجاب العمل بخبر العادل.
نعم قد وقع فی الشریعة المقدّسة بعض التحدیدات فی بنائهم، مثل اعتبار التعدّد فی الموضوعات، لکنّه أمر آخر.
الوجه الثالث : ما أفاده شیخنا الاُستاذ الحائری قدس سره، وحاصله : أنّ الأحکام الشرعیّة علی ثلاثة أقسام:
الأوّل : ما یکون تحقّقه بالإنشاء بالأمر أو النهی.
الثانی : الأحکام الواقعیّة التی کشف عنها الشارع، کالطهارة والنجاسة.
الثالث : الأحکام العقلائیّة التی أمضاها الشارع، کالبیع والصلح ونحوهما.
فلو تبدّل رأی المجتهد فی أحد الأوّلین بقیام أمارة علیه، ثمّ انکشف الخلاف، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء؛ حیث إنّ للحکم الشرعی واقعاً محفوظاً ـ وإن کانت واقعیّته بنفس الإنشاء ـ وهو باقٍ لم یأتِ به بعد، فلا وجه للإجزاء حینئذٍ.
وأمّا القسم الثالث : فهو أیضاً علی قسمین : قسم له واقع محفوظ أیضاً، کما لو قلنا: إنّ للبیع والنکاح واقعاً محفوظاً لایتغیّر، فهو کذلک ومقتضی القاعدة فیه عدم الإجزاء.
وأمّا لو قلنا : إنّ الأسباب العقلائیّة غیر مستقلّة فی التأثیر، بل هی جزء السبب، والجزء الآخر المتمّم للسبب هو إمضاء الشارع لها، نظیر إجازة المالک فی البیع الفضولی، فمقتضی القاعدة فیه هو الإجزاء؛ وذلک لأنّ المفروض صحّة اجتهاده علی طبق الموازین الشرعیّة، ولم یتبیّن خطأه فیه بعد، لکن بعد الظفر بأمارة علی الخلاف ـ من باب الاتّفاق فی غیر مظانّها مثلاً ـ تبدّل الموضوع إلی موضوع آخر، والحکم الظاهری وإن کان طریقاً محضاً إلی الواقع بتنزیل مؤدّی الأمارة منزلة الواقع، لکن تنزیل الشارع مؤدّاها منزلة الواقع حقیقیّ واقعیّ، مع عدم کون مؤدّی الأمارة حقیقیّاً.
وبالجملة : هنا أمران :
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 694 أحدهما : قول زرارة ـ مثلاً ـ الذی هو مؤدّی الأمارة.
ثانیهما : قول الشارع بتنزیل الشارع له منزلة الواقع.
والثانی حکم حقیقیّ، والأوّل تنزیلیّ، والذی تبیّن خطأُه هو الأوّل لا الثانی، وبالثانی نقول بالإجزاء ونفوذ المعاملة؛ لأنّ نفوذها غیر مقیّد بزمان خاصّ، ولا یحتاج فی بقائها إلی سبب آخر، بل یکفی السبب الأوّل، نظیر حصول الطهارة بوضوء الجبیرة؛ حیث إنّها لیست مقیّدة بزمان وما دام العذر.
فإن قلت : إنّ تلک الإجازة مقرونة بالردّ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارة الثانیة أقوی من الاُولی ، فهی ردع عن بناء العقلاء، والإجازة المقرونة بالردّ غیر مؤثّرة.
قلت : لانسلّم الردع عنها، فإنّه لو أفتی المجتهد أوّلاً بجواز العقد بالفارسیّة؛ بالاجتهاد الصحیح علی طبق الموازین الشرعیّة؛ لأمارة قائمة علیه، ثمّ تبدّل رأیه إلی اعتبار العربیّة لأمارة اُخری دالّة علیه، ظفر بها فی غیر مظانّها، راجحة علی الاُولی بحسب القواعد الاجتهادیّة، فلا تنافی بین الأمارتین؛ حیث إنّ مفادَ هذه اعتبارُ العربیّة فی ذات العقد مع قطع النظر عن الطوارئ، لا بطلان العقد بالفارسیّة مطلقاً، ومفاد الأمارة الاُولی عدم اعتبار العربیّة فیه مع الطوارئ ، وهی فی صورة الشکّ فی الاعتبار، ولا تنافی بینهما، وحینئذٍ ففی الشرع عقدان: حقیقیّ، وهو الذی اعتبرت فیه العربیّة بحسب الحکم الواقعی الأوّلی، وعقد لایعتبر فیه ذلک بحسب الحکم الظاهری، وکلّ واحد منهما مؤثّر فی النقل والانتقال.
فإن قلت : هذا نظیر العقد الفضولی لو أمضاه غیر مالکه بتخیّل أنّه المالک، ثمّ بان أنّه غیره، فکما أنّه لایمکن أن یقال بتأثیر هذا الإمضاء، کذلک العقد بالفارسیّة بالاجتهاد الأوّل الذی تبیّن خطأُه.
قلت : هذا خروج عن موضوع البحث؛ لأنّ المفروض أنّ الاجتهاد الأوّل کان صحیحاً تامّاً علی طبق الموازین الاجتهادیّة، ولم یتبیّن خطاؤه فیه، بل تبدّل
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 695 الموضوع إلی موضوع آخر بعد ظفره بالدلیل علی الخلاف، فالاجتهاد الأوّل أیضاً صواب. انتهی.
أقول : وقع الخلط فی کلامه قدس سره بین المعذوریّة وعدمها وبین الخطأ والصواب، فإنّ المفروض أنّه تبیّن خطأُه فی الاجتهاد الأوّل، بعد الظفر علی الدلیل علی الخلاف وإن کان معذوراً فیه؛ لأنّ المفروض أنّه جدَّ واجتهد واستفرغ وسعه، وأنّ الظفر بالدلیل علی خلاف العادة، ولم یکن مقصّراً فی الاجتهاد الأوّل، وهذا لاینافی معذوریّته فی خطأه فی الواقع، وحینئذٍ نقول: إنّ المفروض صحّة اجتهاده السابق علی طبق الموازین الاجتهادیّة، لکن حجّیّته إنّما هی لأجل بناء العقلاء، وإمضاء الشارع له أیضاً إنّما هو لأجل أنّه کاشف عن الواقع وطریق إلیه، فالأمر بالعمل به حقیقیّ، لکنّه طریقیّ، لا أنّه مطلوب نفسیّ، وبعدما کشف الخلاف ـ وعدم الأمر به واقعاً، بل تخیّل أنّه مأمور به ـ فلا أمر حتّی یُبحث عن اقتضائه الإجزاء وعدمه، فلا الاجتهاد السابق موافق للواقع، ولا الأمر بالأخذ بمؤدّاه.
فالظاهر أنّ ما أفاده قدس سره ناشٍ عن الخلط بین المعذوریّة والصواب.
الوجه الرابع : تفصیل آخر نسب إلی السیّد الجلیل صاحب العروة الوثقی ، وربّما یظهر من «الفصول» المیل إلیه، وهو التفصیل بین ما لو کان الاجتهاد الأوّل ظنّیّاً مستنداً إلی الأمارات، ثمّ تبدّل رأیه بالاجتهاد الظنّی، وبین ما لو تبدّل بالقطع بالخلاف؛ بعدم الإجزاء فی الثانی والإجزاء فی الأوّل:
أمّا عدم الإجزاء فی الثانی فلتبیّن خطأُه وبقاء الواقع عمّا هو علیه فوجب امتثاله.
وأمّا الإجزاء فی الأوّل فلعدم الترجیح بین الاجتهادین؛ حیث إنّ کلّ واحد
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 696 منهما ظنّیّ، ولأنّه لا تأثیر للاجتهاد الثانی فیما قبله من الأعمال، بل المؤثّر فیها هو الاجتهاد الأوّل.
وأورد علیه قدس سره أکثر من تأخّر عنه ممّن تعرّض لما ذکره، والإیراد علیه فی محلّه؛ لأنّ المفروض ظهور خطأه فی الاجتهاد الأوّل؛ وتبیّن عدم موافقته للواقع بحسب الاجتهاد الثانی، فلو کان رأیه السابق جواز الصلاة فی وَبَر ما لا یؤکل لحمه، وصلّی فیه، ورأیه اللاّحق عدمه، مع فرض ظهور خطأه فی الاجتهاد الأوّل؛ لظفره بأمارة معتبرة علیه، فمفاد هذه الروایة ومقتضاها فساد الصلاة المذکورة بنحو الإطلاق؛ من دون اختصاصه بزمان دون زمان، فهو معذور فی اجتهاده الأوّل؛ لأنّ المفروض أنّه بذل تمام جهده فیه، لکن تبیّن خطأُه فیه من الأوّل، فلولا ترجیح لأحد الاجتهادین علی الآخر للزم جواز العمل علی طبق اجتهاده الأوّل فی الأعمال اللاّحقة أیضاً، وهو قدس سره لایلتزم به، فالحکم بتعیّن العمل علی وفق الاجتهاد الثانی، إنّما هو لأجل بطلان اجتهاده الأوّل وفساده.
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 697