الأمر الثانی: استصحاب الأحکام الوضعیّة
ثمّ أنّه قدس سره ذکر فی الکفایة : أنّه لا فرق فی الأثر الشرعی المستصحب أو المترتّب علی الموضوع المستصحب؛ بین کونه من الأحکام التکلیفیّة والوضعیة، ولا بین المجعولة مستقلاًّ وغیرها.
وهو صحیح، غیر أنّا ذکرنا سابقاً: أنّ جمیع الأحکام الوضعیّة قابلة للجعل المستقلّ أیضاً، ولا یمتنع ذلک فی شیء منها.
لکن هنا عویصة یصعب الذبّ عنها : وهی أنّ الأمر متعلّق بالصلاة المتقیِّدة بالطهارة وعدم المانع، واستصحاب الطهارة من الحدث والخبث وسائر الشرائط، لایثبت أنّ هذه الصلاةَ المأتیّ بها مع استصحاب الطهارة متقیّدةٌ بالطهارة، وهکذا بالنسبة إلی استصحاب عدم المانع. نعم یترتّب علی استصحاب الطهارة الآثار الشرعیّة المترتّبة علی نفس الطهارة، مع أنّ استصحاب الطهارة من الحدث والخبث موردا روایتی زرارة.
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 193 وتوهّم: أنّ الصلاة لیست متقیّدة بالطهارة، بل الطهارة والطهور من الأوصاف المعتبرة فی المصلّی.
مدفوع : بأنّه یستلزم عدم وجوب الصلاة علی من لیس علی طهارة، ولا یجب علیه حینئذٍ تحصیلها أیضاً؛ لأنّ مرجعه إلی أنّها شرط التکلیف لا المکلّف به، کالاستطاعة بالنسبة إلی وجوب الحجّ.
وتوهّم : أنّ هنا واجبین وتکلیفین : أحدهما الوضوء مثلاً، وثانیهما الصلاة.
مدفوع أیضاً : بأنّه یستلزم صحّة الصلاة والخروج عن العهدة بالإتیان بها بدون الطهارة وإن عصی بترک الطهارة والوضوء علی هذا التقدیر.
وتوهّم : أنّهما مترتّبان .
مدفوع أیضاً : بأنّه إن اُرید تقیید الأوّل ـ أی الطهارة الواجبة ـ بتحقّق الصلاة، ووقوعها بعدها، یلزم عدم صحّة الوضوء مع عدم الإتیان بالصلاة بعده.
وإن اُرید تقیید الصلاة بوقوعها عقیب الوضوء فهو معنی تقیید الصلاة به، ولایثبت ذلک التقیید باستصحاب الوضوء من الفاعل، والإشکال کما تری لایختصّ باستصحاب المانع وعدمه، بل الشروط أیضاً کذلک، فلا وجه لتخصیصه بالأوّل.
وأمّا التمسّک بروایتی زرارة بالنسبة إلی استصحاب الطهارة من الحدث والخبث لخروج الشرائط عن محطّ البحث والکلام، بخلاف الموانع.
ففیه : أنّه قد تقدّم عدم اختصاص الأخبار بموردها؛ أی استصحاب الطهارة من الحدث والخبث؛ لأنّ المستفاد من أخباره: أنّ المناط نقض الیقین بالشکّ، ولا دَخْل لخصوصیّة موردها، وأنّ الخصوصیّة ملغاة عرفاً، فلو قلنا باعتبار المثبِت
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 194 من الاستصحاب فی خصوص الطهارة من الحدث والخبث، فغیرهما أیضاً کذلک بإلغاء الخصوصیّة، ومقتضاه حجّیّة المثبِت من الاستصحاب مطلقاً، وهو ممّا لایمکن الالتزام به.
هذا، ولکن یمکن دفع الإشکال : بأنّ المستفاد من الآیات والروایات الواردة فی باب الوضوء، وکذا الإجماع وقوله علیه السلام: (لاصلاة إلاّ بطهور) هو أنّ الصلاة مشروطة بصدورها من المتطهّر لقوله تعالی : «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» ، وقوله تعالی : «إِذا قُمْتُمْ إِلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» الآیة، فأنّ هیئة الأمر فیها وإن استعملت فی معناها ـ أی البعث والطلب ـ لکن یستفاد منها أنّ الصلاة إذا صدرت عن فاعل غیر متطهّر فهی فاسدة، وإذا صدرت من المتطهّر فهی صحیحة، ولیس معنی ذلک إلاّ اشتراط الصلاة بصدورها من المتطهّر، وکذا قوله علیه السلام: (لا صلاة إلاّ بطهور)، فأنّ معناه: أنّ الصلاة الصادرة من المتطهّر صحیحة، ومن الغیر المتطهّر فاسدة، فیستفاد منه اشتراطها بصدورها من الفاعل المتطهّر، وحینئذٍ فإذا کان المکلّف متطهّراً سابقاً، وشکّ فی بقائه علی الطهارة، فصلّی باستصحاب الطهارة، فالصلاة الصادرة منه بالوجدان صادرة عن المتطهّر تعبّداً، فهی واجدة للشرط؛ أی صدورها من المتطهّر، وهو کذلک تعبّداً.
وکذا الکلام بالنسبة إلی الموانع فأنّ المستفاد من قوله علیه السلام فی روایة ابن بکیر: (لاتُصلِّ فی وَبَر ما لا یُؤکل لحمه) أنّها إذا صدرت من اللاّبس لغیر المأکول فهی
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195 فاسدة، فمع استصحاب کونه لابساً لغیر المأکول، تصیر الصلاة الصادرة منه وجداناً متّصفة بصدورها من اللاّبس لغیر المأکول تعبّداً، فهی فاسدة.
نعم یشکل الأمر بالنسبة إلی استصحاب عدم المانع وعدم الشرط لإحراز صحّة الصلاة ووقوعها صحیحة فی الأوّل وعدم وقوعها صحیحة فی الثانی؛ حیث أنّه لیس هناک کبری کلّیّة شرعیّة تدلّ علی صحّة الصلاة الصادرة من الفاعل الغیراللاّبس لغیر المأکول ، أو علی عدم صحّة الصادرة من الفاعل الغیر الواجد للشرط، بل هو حکم عقلیّ، والصادرمن الشارع عدم صحّة الصلاة الصادرة من اللاّبس لغیر المأکول، وصحّة الصلاة الصادرة من المتطهّر، وحینئذٍ فلا تثبت صحّة الصلاة وتحقّقها باستصحاب عدم لبسه لغیر المأکول، وعدم صحّة الصلاة باستصحاب عدم کونه متطهِّراً.
وتوهّم : أنّ مرجع مانعیّة شیء للصلاة إلی اشتراط الصلاة بصدورها من الغیر اللاّبس لما لا یؤکل لحمه؛ لعدم تصوّر المانعیّة فیما نحن فیه؛ لعدم الضدّیّة التکوینیّة بین الصلاة وبین لبس ما لا یؤکل ، فلابدّ أنّ یکون عدمه قیداً للصلاة.
ففیه : أنّ ذلک حکم عقلیّ لا یساعده فهم العرف المحکّم فهمه فی المقام؛ لوضوع أنّه لایفهم العرف من قوله علیه السلام: (لاتُصلِّ فی وَبَر ما لا یُؤکل لحمه) إلاّ مانعیّته للصلاة، لا شرطیّة عدمه لها، کما أنّ المتبادر عرفاً من قوله علیه السلام: (اغسل ثوبک من أبوال ما لا یُؤکل لحمه) هو شرطیّة الطهارة من الخبث للصلاة، کتبادر شرطیّة
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196 الطهارة من الحدث من قوله تعالی : «إِذا قُمْتُم إلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا» الآیة، وحینئذٍ فاستصحاب عدم المانع لایثبت وقوع الصلاة مع عدم المانع وصحتها؛ لما عرفت أنّه أثر عقلیّ لا شرعیّ.
قال فی «الکفایة» : لا فرق فی المستصحب أو المترتِّب علیه بین وجود الأثر وعدمه؛ ضرورة أنّ أمر نفیه بید الشارع کثبوته.
توضیح ذلک وتحقیقه : هو أنّه لیس مفادُ (لاینقض...) إلی آخره، الحکمَ بالبناء العملی علی بقاء المتیقَّن، بل معناه الأمر بعدم نقض الیقین السابق، والتعبّد بأنّه علی یقین، ویعتبر فی استصحاب الموضوعات أنّ لایکون التعبّد بذلک لغواً، ولا یعتبر ترتّب الأثر العملی علیه، فقد یکون الشیء مسبوقاً بالوجوب، فباستصحابه یجب الامتثال، وقد یکون مسبوقاً بالعدم، فباستصحابه یکون المکلّف فی السعة، ولیس مفاد (لاینقض) جعل المماثل ؛ کی یرد علیه: أنّ العدم غیر مجعول.
والحاصل : أنّه کما أنّ للشارع رفع الأحکام بمثل (رُفع ... ما استُکرهوا علیه) ونحوه، کذلک له الحکم تعبّداً ببقاء عدم الوجوب، خصوصاً علی القول بوجوب الاحتیاط فی الشبهات، کما ذهب إلیه الأخباریّة.
وفائدة هذه الاستصحاب : أنّ المکلّف فی سعة من وجوب الامتثال، وهکذا
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197 الکلام فی الموضوعات، فکما یصحّ استصحاب العالمیّة لزید، وبه ینقّح موضوع دلیل وجوب إکرام العلماء، ویکون ذلک توسعة لموضوعه، کذلک یصحّ استصحاب عدم عالمیّته، فیتضیّق به موضوع وجوب إکرام العالم، وفائدته أنّ المکلّف فی سعة من وجوب إکرامه.
وتوهّم : أنّه مثبِت؛ حیث أنّ المجعول هو وجوب إکرام العالم، وأمّا عدم وجوب إکرام غیر العالم فهو حکم عقلیّ لا شرعیّ، فلا یترتّب علی استصحاب عدم العالمیّة.
فیه : أنّه لیس المقصود إثبات عدم وجوب الإکرام، بل المقصود أنّه یکفی عدم ثبوته لأجل انتفاء موضوعه، ومرجعه أیضاً إلی تنقیح موضوع الدلیل الاجتهادی، کما فی استصحاب العالمیة.
أقول : لکن استصحاب عدم المانع لیس من هذا القبیل؛ حیث أنّه لایثبت باستصحاب عدم کون المصلّی لابساً له وقوع الصلاة وصحتها، کما عرفت توضیحه بما لامزید علیه.
نعم لو کان هناک أثر شرعیّ مترتّب علی نفس عدم وجود المانع فلا إشکال فی ترتّبه باستصحاب عدمه.
فتلخّص : أنّه لا مجال لاستصحاب عدم الشرط والمانع، بخلاف استصحاب وجودهما.
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198