الجهة السادسة : حول أنّ القاعدة من الأمارات أو الاُصول؟
هل هذه القاعدة من القواعد العقلائیّة ـ أمارة أو أصلاً ـ قد استقرّ علیها بناء العقلاء، وأنّ الروایات المتقدّمة إمضاء وتنفیذ لهذا البناء العرفی، أو أنّها قاعدة تأسیسیّة شرعیّة تختصّ بالصلاة، کما هو مختار الفقیه الهمدانی قدس سره، وقال: إنّها غیر قاعدة الفراغ، وأنّ قاعدة الفراغ عقلائیّة ـ أمارة أو أصلاً ـ أو أنّ قاعدة الفراغ أیضاً لیست عقلائیّة،
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 385 بل شرعیّة تعبّدیّة؟
وعلی تقدیر کونها أصلاً تعبّدیّاً شرعیّاً فهل هی من الاُصول المحرِزة أو لا، بل تعبّد محض کأصل البراءة؟
وعلی الأوّل فهل هی لإحراز الوجود المطلق، فیترتّب علیه جمیع أحکامه وآثاره، أو للإحراز الحیثی، کما یظهر من الشیخ الأعظم قدس سره؟ وجوه.
أمّا ما أفاده الفقیه الهمدانی قدس سره : من أنّ قاعدة الفراغ عقلائیّة فقط، دون قاعدة التجاوز.
ففیه : أنّه لابدّ وأن یکون ذلک بملاک، وهو الأذکریّة حین العمل، وأنّ المرید لامتثال الأمر بالمرکّب یأتی بجمیع أجزائه وشرائطه، ولا یترکها إلاّ مع الغفلة والسهو، وهما خلاف الظاهر لکن عنوان الفراغ من العمل لیس دخیلاً فی هذا الملاک؛ بأن یثبت هذا الحکم لخصوص الشکّ بعد الفراغ من العمل بإتیان الجزء الأخیر منه، وعدم ثبوته قبل الإتیان بالجزء الأخیر، بل هذا الملاک موجود فی أثناء العمل لو شکّ فی الجزء السابق حال الإتیان بالجزء اللاّحق.
لا یقال : إنّ اختصاص هذا الملاک بقاعدة الفراغ، إنّما هو لتخلّل الفصل الطویل بین الشکّ ومحلّ الجزء المشکوک المفقود فی قاعدة التجاوز.
لأنّه یقال :
أوّلاً : إنّه لا دَخْل للفاصلة الطویلة فی الأذکریّة .
وثانیا : إنّه منتقض طرداً وعکساً، فإنّه لو قرأ فی الصلاة سورة طویلة ـ کسورة البقرة ـ وشکّ فی التکبیر ، لزم تخلّل الفصل الطویل بین المشکوک والشکّ، فیتحقّق الملاک حینئذٍ ، ویلزم علی ما ذکر جریان قاعدة الفراغ؛ لوجود ملاکها ـ أی الفصل
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 386 الطویل ـ مع أنّه قدس سره لایلتزم بذلک.
ولو شکّ بعد الفراغ والتسلیم فی الجزء السابق علیه کالتشهّد الأخیر، یلزمه عدم جریان قاعدة الفراغ حینئذٍ؛ لعدم وجود ملاکها؛ أی الفصل الطویل، ولایلتزم هو قدس سره به أیضاً.
فالقول بانتساب قاعدة التجاوز إلی العقلاء أولی من انتساب قاعدة الفراغ إلیهم.
والمتّبع فی المقام ما یستفاد من الأخبار، ولسانها ـ کما تقدّم ـ مختلف:
ففی بعضها أنّه یمضی، أو الأمر بالمُضی.
وفی بعضها : (إذا خرجت من شیء، ثم دخلت فی غیره، فشکّک لیس بشیء).
وفی بعضها الوارد فی الموارد الجزئیّة : (قد رکعت) ونحوه.
وفی الموثّقة : (هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ)، أو (أقرب إلی الحقّ).
واُخذ الشکّ فی بعضها موضوعاً للحکم بعدم الاعتبار.
ولا إشکال فی أنّ لسان الفرقة الأخیرة لسان الأصل لا الأمارة؛ لأنّها تدلّ
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 387 علی عدم الاعتبار بالشکّ مع بقائه وبقاء احتمال الخلاف.
وأمّا قوله علیه السلام: (فشکّک لیس بشیء) ونحوه ، فمعناه أیضاً الحکم بعدم الاعتناء بالشکّ مع حفظه وفرض وجوده، فهو أیضاً لسان الأصل، فجعل هذا التعبیر من الشواهد علی أماریّة القاعدة ـ کما صنعه المحقّق الشیخ محمّد حسین الأصفهانی قدس سرهـ ممّا یأباه ظاهره.
وأمّا التعبیر بنحو : (بلی قد رکعت) ونحوه، الذی جعله من أقوی الشواهد علی أماریّتها.
ففیه : أنّه یحتمل فیه الحکم بالبناء علی وجود المشکوک فی عالم التعبّد مع حفظ الشکّ وفرض وجوده، لا إلغائه؛ لتکون أمارة، فمفاده أنّها أصل محرِز.
وأمّا قوله علیه السلام فی الموثّقة : (هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ) أو (أقرب إلی الحقّ)، ففیه احتمالان:
أحدهما : أنّ مفاده إلغاء الشکّ واحتمال الخلاف ، واعتبار الظنّ الحاصل من الغلبة.
ثانیهما : أنّ المراد منه بیان السرّ والحکمة ونکتة التشریع والحکم بالبناء علی الوجود مع حفظ الشکّ.
والاحتمال الثانی أقرب من الأوّل؛ لأنّ الأمارة ـ علی فرضها فی المقام ـ هو الظنّ الحاصل بالغلبة، ولیس لسان الخبر إلغاء الشکّ واحتمال الخلاف، کما هو لسان الأماریة، فلسانها إلغاء احتمال الغفلة الموجبة لترک المشکوک ولو باعتبار أذکریّته حین العمل أو أقربیّته إلی الحقّ.
مضافاً إلی أنّه ـ بعد ظهور الروایات الاُخر علی أنّها أصل لا أمارة ـ لاتصلح
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 388 هذه الروایة للتمسّک بها علی الأماریّة.
وأمّا تقریب أماریّتها : بأنّ الغالب فیمن یرید امتثال الأمر بمرکّب ذی أجزاء وشرائط، هو الجری علی وفق إرادته، والإتیان بجمیع أجزائه وشرائطه کلٍّ فی محلّه، وإن لم یلتفت إلی الجزء تفصیلاً، ولم یقصده کذلک، وأنّ الإرادة المتعلّقة بالکلّ هی بعینها إرادة الأجزاء، فهی محرّکة له إلی الإتیان بالأجزاء والشرائط، فهو یریدها بعین إرادة الکلّ، فهو لایترک الأجزاء والشرائط إلاّ مع الغفلة والسهو، وهما خلاف الظاهر.
فهو ـ مضافاً إلی أنّه تبعید المسافة؛ إذ لا احتیاج إلی هذا التطویل ـ لایخلو عن الإشکال أیضاً؛ لما قرّر فی محلّه: أنّه لا تتولّد إرادة من إرادة اُخری، ولا یترشّح بعث من بعث آخر، بل تقدّم فی مسألة مقدّمة الواجب: أنّ لکلّ واحد من أجزاء المرکّب إرادة خاصّة مستقلّة به لها مبادٍ خاصّة، غایة الأمر أنّها ارتکازیّة، لا تفصیلیّة بتصوّر تفصیلیّ، أو تصدیق بالفائدة کذلک، وحیث إنّ إدراک الإنسان سریع لطیف فقد یخیّل أنّ بعض أفعاله تصدر بلا إرادة، کجعل الإنسان یده حاجباً له حینما یتوجّه إلیه ما یکاد یصیبه، أو من نور الشمس مع أنّه لیس کذلک .
فتلخّص : أنّ الإرادة المتعلّقة بالأجزاء لیست عین الإرادة المتعلّقة بالکلّ ولا الاُولی متولّدة من الثانیة.
فالحقّ : أنّ المستفاد من الأخبار أنّ القاعدة من الاُصول المحرِزة؛ لدلالة أکثرها علی وجوب البناء علی وجود المشکوک مع حفظ الشکّ.
نعم بعضها ساکت عن تلک الدلالة، لکنّها لا تُنافی فی دلالة الباقی علیه.
لکن هل تدلّ علی الإحراز المطلق؛ بحیث یترتّب علیه جمیع الأحکام والآثار
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 389 المرتّبة علی وجود المشکوک، أو علی الإحراز الحیثی؟
ویظهر الفرق بینهما فی ترتّب سائر الأحکام علیه، کما لو شکّ فی أثناء صلاة العصر فی أنّه صلّی الظهر قبلها، أو لا؛ لاشتراط تقدّم صلاة الظهر علی العصر، فمقتضی قاعدة التجاوز صحّة العصر؛ وأنّه أتی بالظهر تعبّداً، فإن قلنا: إنّ القاعدة محرِزة للوجود بنحو الإطلاق، لایجب علیه الإتیان بصلاة الظهر بعد العصر.
وإن قلنا : بأنّها حیثیّة وجب الإتیان بالظهر عقیب العصر؛ لأنّ الحکم بوجود الظهر إنّما هو من حیث أنّ تقدّمها شرط لصحّة العصر، لا مطلقاً، فالظهر من حیث اشتراط تقدّمها لصحّة العصر؛ هی محکومة بالوجود ، لامطلقاً، فیجب علیه الإتیان بالظهر بعد العصر.
لا یقال : مقتضی حیثیّة الإحراز عدم جواز الدخول فی الصلاة؛ فیما لو شکّ فی جزء من أجزاء الطهارات الثلاث بعد الفراغ عنها، أو فی شرط من شروطها، کطهارة محلّ الغسل من الخبث، وکذلک لو شکّ فی ذلک بعد الصلاة، فیجب علیه إعادة الصلاة؛ لأنّ مقتضی القاعدة حینئذٍ صحّة الوضوء من حیث إنّه وضوء، لا من حیث اشتراط الصلاة به.
لأنّه یقال : لیس المراد أنّ القاعدة من جهة حیثیّتها أیضاً حیثیّة، بل حیثیّة الوضوء وکذلک الغسل والتیمّم عین حیثیّة اشتراط الصلاة بها، فإحرازه إحراز لشرط الصلاة، فیجوز له الدخول فی الصلاة بعد حکم الشارع بأنّه علی وضوء، بخلاف مثال الظهر والعصر، فإنّ حیثیّة الظهر غیر حیثیّة اشتراط العصر بتقدّم الظهر علیها، نعم لاتحرز بها طهارة محلّ الوضوء المشکوکة عن الخبث فی المثال، فیجب علیه تطهیره منه.
ثمّ إنّ الحکم فی الوضوء ونحوه من شرائط الصلاة فی أثنائها بالنسبة إلی الأجزاء اللاّحقة مبنیّ علی ذلک، فعلی القول بأنّ مقتضی القاعدة هی الُمحرِزیّة المطلقة
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 390 أو الأماریّة، تصحّ الصلاة ویتمّها؛ لإحراز الشرط بالنسبة إلی الأجزاء اللاّحقة؛ من غیر فرق بین الشرائط التی محلّها قبل الصلاة کالطهور ـ علی احتمال ـ وبین التی محلّها أثناء الصلاة واعتبر تحقّقها حال الصلاة کالاستقبال، فلو شکّ فی أنّه مستقبل للقبلة فی أثناء الصلاة، فمجرّد جریان القاعدة بالنسبة إلی الأجزاء الماضیة، یُحرِز أنّ الجهة التی استقبل فیها هی القبلة بالنسبة إلی الأجزاء اللاّحقة، فیأتی بها کذلک، بخلاف ما لو قلنا بالُمحرِزیّة الحیثیّة، فإنّه حینئذٍ یفرّق بین الشرائط التی محلّها قبل الصلاة، کالطهور ـ بناء علی استفادة ذلک من الآیة ـ فتصحّ الصلاة بالنسبة إلی الأجزاء اللاّحقة أیضاً؛ للتجاوز عن محلّ الشرط المشکوک، بخلاف ما هو شرط للأجزاء، ومحلّه حال الإتیان بها کالاستقبال ، فإنّه لاتفیده القاعدة الجاریة فی الأجزاء السابقة بالنسبة إلی الأجزاء اللاّحقة، ولا تُحرز شرائطها بها، بل لابدّ من الإحراز الیقینی، وإلاّ بطلت الصلاة.
هذا کلّه فی مقام الثبوت .
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 391