الوجه الثامن
حول استشارته تعالیٰ للملائکة
ربّما یخطر بالـبال أنّ هنا ما یوهم خلاف الـبلاغـة؛ لظهور الآیـة فی أنّـه تعالـیٰ استشار تلک الـزمرة من الـملائکـة، وأعلمهم بذلک حتّیٰ یکونوا مطّلعین علیٰ الأمر، ویقولوا ما قالـوه ویبرزوا ما برزعنهم.
أو یخطر بالـبال: أنّ هذا الـقول والإخبار غیر مفید بعد ما لم یکن فیـه الـخیر للقائل ولا للمقول لـه ومجرّد اطّلاعهم علیٰ ذلک الـخلیفـة وإبراز الـتبرّم بخلقـه لایکفی لجواز إخبارهم بذلک، بل سیظهر أنّ فیـه الـشرّ لبروز
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 228 سوء الأدب عنهم؛ بالاعتراض علیٰ هذا الـجعل من ناحیـة فساد الـمجعول، وبالـمناقشـة فی هذا الاختیار؛ بأنّه من سوء الـخیار والاصطفاء، وبإبراز لَغْویّتـه؛ وإظهار أنّـه لا أثر لـه ولا ثمرة علیـه إلاّ الـتخلف والإفساد وسفک الـدماء، فتلک الـمذاکرة خلاف الـموازین، فکیف یمکن تصدیقها؛ کی یکون فی الـکتاب الإلهی ما لا یمکن الإذعان حسب الـظاهر.
أقول: هذه الـمشکلـة والـمعضلـة، توجب انتقال الذهن إلـیٰ أنّ الـمذاکرة ما کانت قولیـة، ولا مثل سائر الـمذاکرات الـمنعقدة بین الـوحدات الـشخصیـة، فتکون علیٰ هذا مذاکرة تکوینیـة، وإلـهامات غیبیـة، وخطورات نورانیـة من ناحیـة الـربّ، وحیث إنّ الملائکة مختلفة الأصناف، وربّما تکون هی الاصطلاح الخاصّ لجمیع الـقویٰ الـموجودة فی الـعالـم، الـسرّیـة الـمختفیـة عن الأسماع والأبصار الـظاهریـة، کما یأتی فی محلّـه تحقیقـه وتفصیلـه، فلا بأس بأن تکون لها جنبـة ظلمانیـة ونورانیـة، ظلمانیـة أرضیـة سُفلیـة، ذات خطورات خاصّـة باطلـة شیطانیـة، ونورانیـة سماویـة ذات جنبـة إلـهیـة، تُحصّل لهم قولـه تعالـیٰ وکلمتـه الـنورانیـة وحیاً من وراء الـحجرات والـحجابات، فیکون بمنزلـة قولـه تعالـیٰ: «قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلاَئِکَةِ» وقولـه تعالـی: «قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَتَعْلَمُونَ».
ومن الـمحرّر فی محلّـه: أنّ الـموجودات الـمتقدّرة بالـمقادیر الـمختلفـة متکوّنـة عن الـتراب والـنار؛ بمعنیٰ غلبـة مادّة الـتراب والـنار علیٰ سائر الـموادّ أحیاناً، ویجوز أن تکون متکوّنـة عن الـمیاه والـهواء؛ بمعنیٰ غلبـة هذه الـمادّة، وربّما تکون من الـملائکـة ما خلقت من الـهواء، ولکونها لطیفـة یکون الـولید منها قریباً من الـملائکـة الـمجرّدة عن الـموادّ،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 229 مع أنّها متقدّرة بالـمقادیر الـمختلفـة سعـة وضیقاً.
وماهو الأقرب من اُفُق الـتحقیق: أنّ تلک الـملائکـة هی ملائکـة مادّیـة هوائیة ذات جنبتین إلـهیـة وظلمانیـة، إلاّ أنّ لفعلیـة تلک الـمادّة، تکون أشغالُهم الـتقدیسَ والـتسبیحَ الـتکوینیـین؛ أی هم جنود الله فی تنظیم الاُمور فی هذه الأرض وغیرها، فإنّ من الـملائکـة ـ حسب الأظهر ـ هی الـقویٰ الـمرموزة الـمصاحبـة، کما ورد فی بعض الأخبار منّا ما یؤمی إلـیٰ هذه الـجدیرة اللائقـة بالـتصدیق، وتسبیحهم وتنزیههم الـتکوینی هو الـمشی علیٰ الـصراط الـمرسوم لهم فی الـعالَم بإیصال الـوساءط إلـی الـغایات.
فإلـیٰ هنا تبیّن: کیفیـة قولهم وکیفیـة سؤالـهم، و وجـه حلّ الـمعضلـة، وحقیقـة الـملائکـة فی الآیـة، وکیفیـة تسبیحهم وحقیقـة شغلهم، والـمقصود منهم بحمد الله تعالـیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 230