التنبیه الثالث : فی المراد من العلّة المنحصرة
لیس المراد من «العلّیة المنحصرة» الانحصار الحقیقیّ حتّیٰ یقال: بامتناع تقیید المفهوم أو المنطوق، بل المراد من «الانحصار» هو الانحصار الأعمّ منه ومن الإضافیّ، فإذا ورد ابتداءً «إن جاءک زید وضیفک فأکرمه» فمفهومه نفی الوجوب عند انتفاء کلیهما، وحصر العلّیة فیهما بإثبات أنّ کلّ واحد علّة تامّة، ولا علّیة لشیء آخر وراءهما، أو إرجاعهما إلی واحد؛ بتوهّم امتناع تعدّدها مع وحدته.
وبناءً علیٰ هذا، إن کان المفهوم مستفاداً من الدلالة الوضعیّة المدّعاة لأداة الشرط أو للهیئة، یلزم المجازیّة إذا ورد التقیید علی المفهوم؛ للزوم استعمالها فی غیر ما وضعت له.
وإن کان مستفاداً من الإطلاق کما عرفت، فلاتلزم المجازیّة، ویکون القید
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 51 موجباً لخروج العلّیة المنحصرة من الحقیقیّة إلی الإضافیّة.
ومثل ذلک ما إذا تعدّد الجزاء واتحد الشرط، کقوله تعالیٰ: «وَإذَا حُیِّیتُمْ بِتَحِیَّةٍ ...»، فإنّه لایستکشف منه أنّ حدیث العلّیة المنحصرة باطل، بل یتبیّن منه أنّ الانحصار إضافیّ، فاغتنم.
وإنّما الکلام هنا فی أمر آخر: وهو أنّ التقیید الوارد علیٰ خلاف إطلاق المفهوم، یوجب تقیید المفهوم حقیقة وأوّلاً وبالذات، أم یرجع إلیٰ تقیید المنطوق، وتصیر النتیجة تضییق المفهوم.
مثلاً : لو ورد «أنّ الماء إذا بلغ قدر کرّ فهو معتصم» وورد بعد السؤال عن الماء الجاری قوله: «هو معتصم» فإنّ قضیّة المفهوم أنّ کلّ ماء لایبلغ کرّاً لیس بمعتصم، وهذا قابل للتقیید بإخراج الماء الجاری عن مصبّ إطلاقه.
کما یمکن دعویٰ: أنّ ذلک یرجع إلیٰ تقیید المنطوق؛ بإخراجه عن الحصر الظاهر فی الحقیقیّ إلی الإضافیّ، فیکون مفاد القضیّة هکذا «إذا کان الماء کرّاً أو جاریاً فهو معتصم».
والذی هو الأظهر فی محیط العرف؛ تقیید المفهوم بعد الاعتراف به، وأمّا فی محیط الصناعة فیتعیّن تقیید المنطوق؛ لأنّه مصبّ الإطلاق المنتهی إلی المفهوم، فیکون المفهوم فی جمیع الفروض مصوناً من التقیید، ویعدّ تابعاً فی السعة والضیق للمنطوق، فلاحظ فإنّه ینفعک بالنسبة إلی البحث الآتی إن شاء الله تعالیٰ وتأمّل جدّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 52