صور تعارض العامّ مع مفهوم المخالفة
الصورة الاُولیٰ :
إذا کان المفهوم المخالف أعمّ، والمنطوق المسمّیٰ بـ «العامّ» أخصّ، والمفروض وقوعهما فی الکلامین ـ لأنّ البحث فی الکلام الواحد واضح الجهات، وقد تکرّر الجوانب المبحوث عنها فی صورة اتحاد الکلام واقعاً، أو اتحادهما حکماً فی المباحث السابقة ـ فهل فی هذه الصورة یتعیّن تقیید المفهوم، کما هو النظر المستقرّ علیه عند المحصّلین؟ وإنّما اختلافهم فی أنّ مصبّ المعارضة هو المنطوق، أم المفهوم.
مثلاً : إذا ورد «إن جاءک زید أکرم العلماء» وورد «أکرم الفقهاء» فمفهوم القضیّة هو «أنّه إن لم یجئک زید فلا تکرم العلماء» وتکون النسبة بین المفهوم والعامّ عموماً مطلقاً.
والذی هو الحقّ کما مرّ، وقوع المعارضة فی مرحلة الإثبات بین المفهوم والمنطوق الأخصّ؛ وإن لزم من تخصیص المفهوم تصرّف فی المنطوق وتقیید فیه لبّاً.
ولکن الکلام فی أصل جواز تخصیص المفهوم؛ لأنّ بنیان المفهوم علی العلّة التامّة المنحصرة الحقیقیّة، والتخصیص والتقیید یدلّ علیٰ هدم الأساس المزبور.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ الانحصار إضافیّ، لا حقیقیّ، فلا بأس بالتخصیص،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 374 فیبقیٰ عموم المفهوم باقیاً وإن وردت علیه المخصّصات الاُخر، فما یظهر من بعضهم من المناقشة فی التخصیص الزائد، فی غیر محلّه.
وهنا بحث آخر: وهو أنّ فرض المفهوم المخالف مع العامّ، مبتنٍ علیٰ کون المنطوق والعامّ متوافقین، ولایعقل غیر ذلک کما هو الواضح، وقد مرّ منّا أنّ فی الموافقین یؤخذ بالأعمّ المطلق مطلقاً، ویحمل الأخصّ علی الفرد الأکمل، وعندئذٍ یتعیّن فی المثال المزبور الأخذ بالأعمّ، فلا تعارض بین المفهوم والعامّ.
وبعبارة اُخریٰ : یجمع بین المنطوق الأعمّ والعامّ بالأخذ بالأعمّ، وتطرح هیئة العامّ فی التأسیسیّة کما لایخفیٰ، فتکون کنایة عن الأکملیّة.
إن قلت : فی المتّفقین المنجّزین یتعیّن حمل الأخصّ علیٰ توضیح أحد مصادیق العامّ عرفاً، وتصیر النتیجة طرح هیئة الخاصّ فی التأسیس؛ وذلک لامتناع اجتماع التأسیسیّین علیٰ واحد شخصیّ وعنوانیّ، علیٰ ما تحرّر فی بحث الضدّ، وأمّا فیما نحن فیه فلا منع من ذلک؛ لأنّ القضیّة الشرطیّة شرطیّة أبدیّة، ولاتنقلب بعد تحقّق الشرط بتّیة ومنجّزة، فلایلزم اجتماع الإرادتین الفعلیّتین علیٰ واحد؛ وهو إکرام الفقهاء فی المثال المذکور.
قلت : لاشبهة فی أنّ مفاد عقد الحمل فی القضیّة الشرطیّة، هو الحکم الإنشائیّ الذی لا اقتضاء له فی ذاته، وإذا تحقّق الشرط یعدّ من الأحکام التی لها الاقتضاء عقلاً وبالضرورة، ویتعیّن بحکم العقل وجوب مقدّمته، هذا ولکن مع ذلک لا شبهة فی أنّ فی التقنین العرفیّ بعد ضرب القانون بنحو القضیّة الشرطیّة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 375 لایتبدّل فیهم الإرادة باختلاف حال وجود الشرط وعدمه، وربّما یکون غافلاً ونائماً، ومجنوناً أدواریّاً وهکذا.
وفی الشرع الإسلامیّ أیضاً لایقع التبادل والتصرّف حسب الأفراد وأشخاص المکلّفین فی إرادته بالضرورة، فلابدّ من الجمع بین هاتین الجهتین.
والذی هو الحقّ فی المقام : ما تحرّر منّا فی القضایا الشرطیّة من التفکیک بین اللبّ والإثبات، ومقام الثبوت والدلالات، فإنّ جمیع الواجبات المشروطة واجبات منجّزة معلّقة ثبوتاً ولبّاً، وأنّ المولیٰ یرید إکرام العلماء عند المجیء، ولکن لمکان إفهام التوسعة فی ناحیة وجوب المقدّمة، أفاد مطلوبه بنحو القضیّة الشرطیّة مثلاً، فعلیه کما لایعقل الجمع بین الإرادتین التأسیسیّتین المنجّزتین، لایمکن الجمع هنا؛ لرجوع تلک الإرادة إلیٰ تنجیزیّة.
وعلیٰ هذا، قبل تحقّق الشرط یراعی أحکام القضیّة الشرطیّة إثباتاً، وبعد تحقّق الشرط یراعی جانبها الثبوتیّ، ففی المثال المزبور إذا تحقّق المجیء، فلایعقل وجوب إکرام الفقهاء مرّتین تأسیساً، من غیر فرق بین هذا المثال الذی تکون فیه حیثیّة العلم والفقاهة واحدة، وبین غیره، فلیتدبّر واغتنم.
فتحصّل بناءً علیٰ هذا: أنّ فی صورة أخصّیة العامّ من المفهوم تلزم أخصّیته من المنطوق، ومقتضی الجمع بین المنطوق والعامّ بقاء المفهوم علیٰ عمومه.
نعم، علی القول بجواز الأخذ بالمتّفقین فی صورة عدم العلم باتحاد الحکم، یلزم المناقضة بالسلب والإیجاب بین المفهوم والعامّ، ویخصّص به العامّ إلاّ فی صورة کونهما فی کلام واحد.
وما ربّما یقال: من أنّ فی مورد التخصیص یکون دلیل سند الخاصّ حاکماً
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 376 علیٰ أصالة العموم، وفی موارد الحکومة لاتختلف وحدة الکلام وتعدّده، غیر صحیح؛ لأنّ میزان الجمع بین الأدلّة هو العرف، والسند عندهم ملغی ومغفول عنه بالضرورة. مع أنّ الحکومة متقوّمة باللسان.
وهکذا توهّم ورود دلیل الخاصّ علیٰ أصالة العموم، وسیظهر تفصیله فی محلّه.
الصورة الثانیة :
لو کان المفهوم أعمّ مطلقاً من العامّ، وکان العامّ بلسان الحکومة، کما لو ورد «إن جاءک زید أکرم الفقهاء» ثمّ ورد «الأخباریّون من الفقهاء» فإنّ العامّ یورث توسعة جانب المنطوق والمفهوم بلسان الحکومة، ویجب الأخذ بالمنطوق والمفهوم. وهذا یؤیّد ما ذکرناه فی صورة ورود العامّ الأخصّ بلسان التخصیص، ولایوجب وحدة الکلام وتعدّده فی الدلیلین، إجمالاً وإبهاماً علیٰ مختلف الآراء والمبانی.
الصورة الثالثة :
لو کانت النسبة بین المفهوم والعامّ عموماً من وجه، فإنّ مقتضیٰ ذلک کون النسبة بین المنطوق وبینه أیضاً عموماً من وجه، والکلام فیهما علیٰ نهج واحد.
ولو قیل بتقدیم العامّ علی المفهوم؛ لأقوائیّة العامّ المنطوقیّ من المفهوم، أو لأنّ العامّ مستند إلی الوضع دون المفهوم، فلایلزم تصرّف فی المنطوق.
وهکذا لو قلنا بتقدیم المفهوم علی العامّ؛ لأنّه مستند إلی العلّة التامّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 377 المنحصرة الحقیقیّة، ولو تقدّم العامّ علیه یلزم انتفاء المفهوم بالمرّة.
وفیما دار فی العامّین من وجه بین الدلیلین، وکان یلزم من تقدیم أحدهما طرح الآخر لا العکس، یتعیّن الأخذ بالآخر، فإنّه أیضاً لایلزم تصرّف فی المنطوق. وممّا ذکرناه إلیٰ هنا یظهر حکم الصور الاُخر.
والذی هو الحقّ : عدم تقدّم العامّ علی المفهوم ولا العکس إلاّ ببعض المرجّحات الخاصّة، ولیس عندی منها کون العامّ دلیلاً وضعیّاً، والمفهومِ دلیلاً إطلاقیّاً. مع أنّ منهم من یقول بأنّ المفهوم وضعیّ التزامیّ، والعامَّ إطلاقیّ.
نعم، إذا کان العامّان من وجه فی مورد التصادق غیرَ مرادین جمعاً، وکان أحدهما جائز الطرح؛ للعلم الخارجیّ بوحدة الحکم، مثلاً فیما إذا ورد «إن جاءک زید أکرم الفقهاء» وورد «أکرم النحویّین» فإنّه فی محطّ التصادق ـ وهو الفقیه النحویّ ـ یکون الحکم واحداً، فإنّ من تقدیم الأوّل علی الثانی تنقلب نسبة المفهوم والعامّ، فإذا قدّمنا فی المثال المزبور المنطوق علی العامّ، فتصیر نتیجة التقدیم وجوبَ إکرام الفقهاء والنحویّین إذا جاء زید، ومفهومه لا یعارض العامّ کما تریٰ.
وبعبارة اُخریٰ : فی العامّین من وجه المتوافقین؛ إذا علمنا فی الجمیع بکذب أحدهما، لایلزم إلاّ الأخذ بالآخر، وترک العمل بأحدهما المعیّن؛ من دون تعنونه بعنوان زائد فی مقام الإثبات حتّیٰ یؤخذ بظهور القید، ففی المثال المزبور بعد تقدیم المنطوق علی العامّ، لایلزم کون موضوع العامّ النحویّین غیر المتفقّهین حتّیٰ یعارض المنطوق أیضاً، وهذا من الشواهد علیٰ عدم تعنون العامّ أو عدم ظهور للقید، فتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 378