المقدّمة الرابعة : حول انتفاء القدر المتیقن فی مقام التخاطب
ومنها : أی ومن المقدّمات التی ذکرها بعضهم؛ انتفاء القدر المتیقّن فی مقام التخاطب، وهذا الشرط یحتمل احتمالات نشیر إلیها إجمالاً، وربّما تختلف المبانی باختلاف المحتملات کما لایخفیٰ:
الاحتمال الأوّل : أن یکون اللفظ الموضوع فی القانون، قاصراً عن الدلالة قصوراً مستنداً إلی الانصراف، وعدم اُنس الذهن فی محیط التکلّم والتشریع.
وهذا صحیح، إلاّ أنّه لیس من الشرائط کما هو الواضح؛ ضرورة عدم جواز التمسّک بإطلاق دلیل البیع لحکم الإجارة؛ لأنّ لفظة «البیع» لیست دالّة علیٰ معنی الإجارة. ومَن حمل هذا الشرط علی الانصراف اللفظیّ الراجع إلیٰ صحّة سلب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 432 اللفظ عن المعنی المزبور مثلاً ولو فی محیط المتکلّم وأتباعه، فهو قد خرج عن اُسلوب البحث فی المقام.
الاحتمال الثانی : أن یکون المقصود قصور شمول القانون التصدیقیّ فی محیط الاستعمال والمستعملین، فیکون الکلام الملقی منصرفاً إلی القدر المتیقّن الکذائیّ، ومشکوکاً أو مقطوعـاً عدم صـدق الجملـة فی محیط الدلالة؛ لاُنس الذهن بمورد.
وهذا الاحتمال أیضاً لیس بصحیح بالنسبة إلیٰ تفسیر الشرط المزبور، وصحیح فی ذاته؛ لأنّه من قبیل الأوّل، لما أنّه یرجع إلیٰ أنّ المولیٰ بیّن مرامه، وأتیٰ بجمیع ماله دخل فی حدود مقصوده، وأخذ فی کلامه ماهو تمام الموضوع؛ وهی الطبیعة التی معناها کذا فی حیطة الاستعمال.
مثلاً : إذا ورد «الکلب نجس» فتارة : یکون صدق «الکلب» علی الکلب المأتیّ معلوم العدم لغة.
واُخریٰ : معلوماً عدمه فی محیط الاستعمالات.
وثالثة : مشکوک الصدق؛ علیٰ وجه یعلم بمشکوکیته المتکلّم وغیره، فإنّه فی أخذ الکلب موضوعاً لحکم تکلیفیّ أو وضعیّ، إیجابیّ أو سلبیّ، مع کون المراد والمطلوب هو الکلب البرّی، لاینعقد الإطلاق بالنسبة إلی الکلب البحری بعدم ذکر القید؛ لأنّ المقیّد هو الموضوع له، أو هو المنصرف إلیه، والمتیقّن من موارد الإطلاق والاستعمال هو البرّی؛ بمعنیٰ عدم صحّة استعماله فی غیره، أو عدم تعارف الاستعمال فی غیره، أو یشکّ فی جواز الاستعمال فی غیره، مع أنّه شکّ واضح بین المخاطب والمخاطب، أو فی نظر القانون والاستعمال.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 433 الاحتمال الثالث : أنّ وجود القدر المتیقّن فی مقام صدور القانون بالنسبة إلی الإرادة الجدّیة لا الاستعمالیّة، یضرّ ویمنع من صحّة التمسّک بالإطلاق، ویضادّ طروّ وصف الإطلاق علی الکلام.
مثلاً : إذا ورد «أکرم کلّ عالم» فإنّه لا قصور فی الإرادة الاستعمالیّة بالنسبة إلی الفسّاق منهم، ولو کان قاصراً فهو یرجع إلی الوجهین الأوّلین، ولکنّ العدول منهم قطعیّة إرادتهم فی القانون المزبور، وهذا یمکن أن یعدّ شرطاً أو مانعاً، إلاّ أنّ الأصحاب ما قبلوه ؛ مدّعین تمامیّة الإطلاق، لأنّ کلّ دلیل له القدر المتیقّن بهذا المعنی بالضرورة.
الاحتمال الرابع : أنّ وجود القدر المتیقّن فی مقام المخاطبة والسؤال والجواب، یضرّ بالإطلاق، مثلاً إذا سئل عن الفقّاع فأجاب: «لاتشرب الخمر» وهکذا فإنّه یمنع عنه.
وهذا مضافاً إلیٰ عدم شرطیّته ولا مانعیّته، یؤکّد الإطلاق؛ لأنّه فی حکم الإعراض عن الجواب الجزئیّ إلیٰ بیان معنیٰ کلّی وإفادة قانون عامّ.
الاحتمال الخامس : أن یکون المقصود إفادة أنّ وجود القدر المتیقّن بحسب الإرادة الجدّیة، یصلح للقرینیّة، فلایثبت التقیید، ولا الإطلاق:
أمّا الأوّل : فلعدم الدلیل عرفاً علیٰ قیدیّة الخصوصیّة.
وأمّا الثانی : فلإمکان اتکال المتکلّم علی المناسبات الموجودة وغیر البالغة إلیٰ حدّ الانصراف الظاهر والواضح.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 434 مثلاً : إذا قیل: «وَأطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» أو قیل: «تَحْرِیرُ رَقَبَةٍ» أو «إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاکِینَ» أو غیر ذلک، فإنّ تجویز إطعام الکافر والملحد وتحریر رقبة المعاند؛ تمسّکاً بالإطلاق، غیر صحیح؛ لأنّ ما استشمّ من صاحب الشریعة یصلح للقرینیّة، فلایتمّ الإطلاق حینئذٍ.
وهذا وإن کان بحسب الصناعة مخدوشاً، إلاّ أنّ الفقیه ربّما یصدّقنا فی مقام الإفتاء وتعریة نفسه عن الصناعات المضرّة بالفقاهة، کما لایخفیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 5)صفحه 435