البحث الثانی
حول الجبر والتفویض
إنّ الـظاهر من قولـه تعالـیٰ: «إِنَّ الَّذینَ کَفَرُوا» هو أنّهم قد کفروا عن اختیار، فلهم أن یرجعوا الـیٰ الإیمان؛ لأنّ الـکفر الاختیاری تبقیٰ اختیاریّتـه، فإذا کان الأمر کذلک فیکون الـتسویـة بین الإنذار وعدم الإنذار بلا وجـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 128 وإن کان الـمراد من الـکفر هو الـکفر الـذاتی، الـبالـغ الـیٰ حدّ الـخروج عن الاختیار، فیکون الـذمّ بلا وجـه؛ لأنّـه لا معنیٰ للذمّ علیٰ الـفعل غیر الاختیاری، مع أنّ الـظاهر من قولـه تعالـیٰ: «سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ»أنّـه فی موقف هجوهم وذمّهم.
وإن قلنا: بأنّ الـمراد من الـکفر هو الاختیاری منـه إلاّ أنّـه تعالـیٰ کان یعلم أنّهم لایؤمنون بالاختیار، ویکون عنادهم أبدیّاً، فیلزم أن یثبت لهم الاختیار علیٰ تجهیل اللّٰه تعالـیٰ وقلب علمـه جهلاً، وهذا ممّا یکذّبـه الـعقل، فإنّ علمـه تعالـیٰ یوصف بالـوجوب الـذاتی، ولا یتعلّق بـه الـقدرة حتّیٰ قدرتـه تعالـیٰ، ولایقال: هو تعالـیٰ قادر علیٰ أن لایعلم، بخلاف أوصافـه الاُخر کالـهدایـة والإضلال.
وإن قلنا: بأنّ اختیارهم مسلوب، فیعود الـمحذور الـسابق ، مع أنّ سلب الاختیار أیضاً خلاف ضرورة الـعقل.
فبالجملة: هذه الآیـة تُنبئ عن مقالـة الأشعریّین حسب بعض الـتقاریر وعن مقالـة الـمعتزلـة حسب الـتقریب الآخر، کما اُشیر الـیـه.
أقول: الـکفر والإیمان من الـمسائل والـموضوعات الاختیاریّـة باختیاریّـة مبادئها وأسبابها ، ولأجلـه یتعلّق بـه الأمر والـنهی، ثمّ إنّ الـنفوس وإن کانت ـ بحسب الـطینـة والـخلقـة ـ مفطورة علیٰ الـتوحید والإیمان، إلاّ أنّها لمکان الـجهات الـخارجیّـة والأسباب الـعرضیـة، تمیل الـیٰ الـشرور والأباطیل الـیٰ حدّ لایتمکّن من إصلاحها الأنبـیاء وغیرهم؛ من غیر أن یکون
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 129 الـکفر الـقولی علیٰ خلاف الاختیار، ولکن الـکفر الـقلبی والـباطنی ـ لتلک الـعوارض الـراسخـة الـبالـغـة الـیٰ حدّ الـملکات الـرذیلـة ـ لایکون بالاختیار، إلاّ أنّ إصلاح الـحال أیضاً لایخرج عن حدّ الـقدرة والاختیار بالـضرورة.
فالـذین کفروا ـ بأیّ قسم من أقسام الـکفر ـ لایخرجون عن حدّ الاختیار والإرادة، فیکون کفرهم بسوء الاختیار، ولو لأجل عدم الـقیام علیٰ إصلاح أمرهم واستقامـة حالـهم، وهذا الـمعنیٰ أمر معلوم للّٰه تعالـیٰ ولغیره أیضاً، إلاّ أنّ صفـة الـمعلومیّـة للّٰه تعالـیٰ لاتورث سلب الاختیار، کما لاتورث صفـة الـمعلومیـة لغیره تعالـیٰ سلب الاختیار عن الـکافر.
وأمّا قدرتـه علیٰ تجهیلـه تعالـیٰ فهی أمر ثابت، ولا منع منـه عقلاً؛ لأنّ مجرّد الـقدرة لایورث ولایستلزم إشکالاً، مادام لم تتعلّق بخلاف الـمعلوم، فهو قادر علیٰ ذلک إلاّ أنّـه لایتعلّق قدرتـه إلاّ بما تعلّق بـه علمـه تعالـیٰ.
فبالجملة: تحصّل أنّ الآیـة لاتکون ظاهرة فی واحد من الـمذاهب الـباطلـة، وأمثال هذه الآیات کثیرة تأتی فی محالّها إن شاء اللّٰه تعالیٰ.
ومن هنا ینقدح ـ مضافاً الـیٰ بطلان بعض الـبحوث الـمذکورة هنا ـ : أنّ تقریب الـشبهـة لایتوقّف علیٰ کون الـمراد من «الـذین کفروا» الأشخاص الـمعیّـنون، بل لو کانت الـقضیـة بنحو الـحقیقـة أیضاً یمکن تقریر الإشکال، وقد تبـیّـن حلّـه بما لامزید علیـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 130 وأمّا ما قد یقال: إنّ صفـة الـعلم لاتتعلّق بها الـقدرة دون سائر الـصفات، فکیف تتعلّق بتجهیلـه تعالـیٰ قدرة الـعباد، فهو من الـجزاف؛ لأنّ الـعلم الـذاتی وسائر الأوصاف الـکمالـیـة الـذاتیـة لایتعلّق بها الـقدرة، وأمّا الـعلم الـفعلی وسائر الـکمالات الـفعلیـة یتعلّق بها الـقدرة، إلاّ أنّـه فی الأزل تعلّقت قدرتـه بأن یعلم فی مقام الـفعل، کما تعلّقت قدرتـه فی الأزل بالإضلال والـهدایـة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 131