البحث الخامس
حول جواز تعذیب الکفّار
من الـمسائل الـخلافیـة مسألـة جواز تعذیب الـکفّار، وقد ذهب الـیـه أکثر الـفرق الإسلامیّـة، وعن فرقـة منهم: أنّـه لا یحسن، واستدلّوا بأدلّـة عقلیـة إن تمّت لا تقاومها الـنقلیات؛ من الـکتاب کانت أو من الـسُّنّـة،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 203 فدلالـة هذه الآیـة وما شابهها علیٰ جوازه، منوطـة بإبطال تلک الـوجوه الـعقلیـة والـسبل البرهانیـة، ولأجل ذلک نشیر الـیٰ تلک الـوجوه أوّلاً حتّیٰ یتبـیّـن الاستدلال.
وغیر خفیّ: أنّ الآیـة لا تدلّ علیٰ الـخلود، فالـبحث عن مسألـة الـخلود هنا ـ کما فی بعض تفاسیرنا ـ غیر واقع فی محلّـه.
وأیضاً لا یخفیٰ أنّ هذه الآیـة لا تدلّ علیٰ أنّهم یذوقون الـعذاب الـعظیم، ولا تدلّ علیٰ وجود الـعذاب الـعظیم فی الآخرة لسکوتها عنـه، ومجرّد دلالـة سائر الآیات علیٰ شیء لا یکفی لعدّ هذه الآیـة من الآیات الـدالّـة علیٰ تلک المسألـة الـعقلیـة، فلا وجـه للخوض فی مطلق الأدلّـة الـعقلیـة، الـقائم بعضها علیٰ عدم جواز الـتعذیب الـخارجی، أو عدم إمکانـه عقلاً، فإنّـه أمر آخر یأتی فی محالّـه الاُخر إن شاء اللّٰه تعالیٰ.
والذی هو الـممحّض للبحث هنا: هو أنّ هذه الآیـة ظاهرة فی استحقاق الـکفّار للعذاب الـعظیم، وقد قامت الـحجّـة الـعقلیّـة ـ مثلاً ـ علیٰ خلافـه.
وبالجملة: من الـوجوه الـتی یمکن الاستدلال بها لإنکار الاستحقاق مقالـةُ الـمجبِّرة.
والـجواب عنها ـ بعد وضوح فساد مقالـتهم، وبعد أنّ الـمجبِّرة من الـقائلین بجواز الـعقاب لإنکارهم الـحسن والـقبح الـعقلیّـین ـ : هو أنّ مناط الاستحقاق یمکن أن یکون الـحسن والـقبح الـعقلائیـین، ولا شبهـة فی ذلک عند ذی مسکـة، فضلاً عن اُولی الألباب والـبصائر.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 204 ومن تلک الوجوه، وهو أهمّها: أنّـه سبحانـه خالـق الـدواعی الـتی تستلزم الـمعاصی، وتلک لحکمـة الـنظام ومصلحـة الـخلائق فی معیشـة الـدنیا، وفی الـتمدّن والـحضارة الـتی تکون الـناس مجبولـة علیها؛ ضرورة أنّ الـناس لو کانوا کلّهم صالـحین مؤمنین خائفین من عقاب اللّٰه؛ لاختلّ نظام الـدنیا، وبطل أسباب الـحیاة الـظاهرة. ولا ریب أنّ حصول الـدواعی لیس تحت اختیار الـعباد، وإلاّ لکان للدواعی داعٍ آخر، ویعود الـکلام جَذَعاً، فیتسلسل، أو ینتهی الـیٰ داعٍ حصل بخلق اللّٰه تعالـیٰ، فإذا کان هو الـخالـق للدواعی الـشیطانیـة الـتی توجب الـمعاصی، فیکون هو الـمُلْجئ الـیـه، فیقبح منـه تعالـیٰ أن یعاقبهم علیها، کما هو الـظاهر الـواضح.
فعلیٰ هذا تُحمل الآیات الـظاهرة فی الـعذاب علیٰ مجرّد الإرهاب والإرعاب؛ من غیر استـتباع للعذاب والـعقاب؛ لعدم استحقاقهم شیئاً منها، وظهور هذه الآیـة فی الاستحقاق غیر قابل للاعتقاد بـه، وغیر صالـح للتمسّک والـرکون الـیـه، أو تکون محمولـة علیٰ أنّ نفس الـطبع والـختم والـغشاوة هو الـعذاب الـعظیم الـذی لهم فعلاً، بل هذا الاحتمال قویّ لظهور الـجملـة فی الـفعلیـة؛ أی ولهم عذاب عظیم بالـفعل وفی الـحال، ولیس هو إلاّ نفس الابتداء بتلک الـحجب الـعَقْلانیـة والـسمعیـة والـبصریـة.
أقول: اختار صاحب «الـحکمـة الـمتعالـیـة» فی حلّ الـمشکلـة سبـیل الـتحقیق الإیمانی فی حقیقـة الـعقوبـة، وأنّها من ناحیـة الأعمال وتبعاتها والـنتائج وثمراتها، ولا یلحق الـعذابُ ولا الـعقوبةُ الـکفّارَ من جهة
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 205 انتقام منتقم خارجیّ، یفعل الإیلام والـتعذیب علیٰ سبـیل الـقصد وتحصیل الـغرض؛ حتّیٰ تتوجّـه هذه الـمشکلـة وسائر الـمعضلات الاُخر.
وأنت خبـیر بما فیـه الـمحرّر عندنا: من إمکان وجود الـنار الـخارجیـة والـعذاب الاُخروی والـبرزخی؛ زائداً علیٰ تبعات الأعمال وثمرات الأقوال والأفعال، والـتفصیل فی مقام آخر حتّیٰ یتعانق الـبرهان والـقرآن والـطریقـة والـشریعـة.
والذی هو الحلّ لهذه العقدة : أنّ الـدواعی الـتی تحصل أحیاناً فی الـنفوس؛ وإن کانت إخطاریـة غیر اختیاریـة، إلاّ أنّ الإنسان مجبول علیٰ الاختیار ومرید بالاختیار الـذاتی، ومجرّد استجماع الـداعی والـعلم والـتصدیق والـقدرة غیر کافٍ فی حصول الـفعل، فإنّ الـشیء بالـنسبـة الـیٰ هذه الـمبادئ بالإمکان، ولا یخرج عن حدّ الإمکان الـیٰ الـوجوب حتّیٰ یوجد إلاّ بالإرادة، وهی صفـة وفعل اختیاریّان للنفس، والـنفس بالـنسبـة الـیها مختارة بالـذات، کما علیـه الـوجدان بل والـبرهان، فالـشبهـة الـمزبورة إن لم تکن ترجع الـیٰ مسألـة الـجبر ومقالـة الـمجبِّرة، منحلّـة واضحـة الـسبـیل جدّاً، وللبحث مقام آخر یأتی إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.
الوجه الثالث الذی ینتهی إلیٰ نفی الاستحقاق ـ وهو مورد الـبحث هنا، وأمّا أصل الـتعذیب واقعاً والـخلود فهما بحثان آخران لا ینبغی الـخلط وإن خلط صدر الـحکمـة الـمتعالـیـة قدس سره فی الـمقام، والأمر سهل کما مرّ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 206 وبالـجملـة ـ هو: أنّ اللّٰه سبحانـه إنّما کلّف عباده لما یعود الـیهم من الـنفع، قال: «إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِکُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»، فإذا عصینا فقد فوّتنا علیٰ أنفسنا الـمنافع الـکثیرة الـمرغوب فیها، فإذاً هل یحسّن الـعقول أن یأخذکم الـحکیم، ویعذّبکم بالـعذاب الـشدید؛ معلّلاً: بأنّکم قد فوّتُّم علیٰ أنفسکم الـمنافع والـخیرات؟! وهل هذا یحسن من الـسیّـد معلّلاً: بأنّک ما جلبت الـخیر، فأنا اُوجّـه الـیک الـشرّ، وغیر ذلک من الـتعابیر؟! فیُعلم أنّ الـعذاب لیس علیٰ مبنیٰ الاستحقاق، خلافاً للآیـة الـشریفـة الـظاهرة فی استحقاقهم.
أقول: إنّ حکم الـعقلاء فی مثل تعذیب الآباء بالـنسبـة الـیٰ الأولاد، من الاُمور الـمتسالـم علیها عند الـکلّ، مع أنّـه لا یرجع الـنفع إلاّ الـیهم. هذا أوّلاً.
وثانیاً: یکفی للاستحقاق الـتخطّی عن أوامر الـمولیٰ والـتجاوز الـیٰ الـحدود الـممنوعـة والـدخول فی حماه؛ من غیر نظر الـیٰ الـمصالـح والـمفاسد، والـیٰ من یرجع الـیـه الـخیر والـنفع أو الـشرّ والـضرر، وقد علمت أنّ الـکلام حول الاستحقاق، وأمّا الاستیحاش من الـتعذیب بحسب الـواقع ونفس الأمر، فلا یستلزم نفی الاستحقاق؛ لإمکان کون الـتعذیب ـ کما سنشیر الـیـه ـ راجعاً الـیٰ خیر الـعبد وصلاحـه، ویکون الـعذاب من مظاهر الـرحمـة الـرحیمیـة، ومن الـعنایات الـخاصّـة الـسبحانیـة.
وثالـثاً: إنّ الـنار فی الآخرة تُفعل بالإرادة، «وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِیَ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 207 الْحَیَوَانُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ»، وتدرک الـفاسقین والـملحدین بالاستحقاق؛ من غیر صحّـة استناد ذلک بلا توسّط الـیـه تعالـیٰ، فهی ـ فی الـنظام الإلهی ـ کالـسلطان الـعادل، لا یفعل إلاّ حسب الاقتضاءات والاستعدادات، وأمّا لزوم دفع شرّ الـنار علیـه تعالـیٰ، فهو کلزوم دفع شرّ الأشرار فی الـدنیا، فکما لا ملزم عقلاً علیـه تعالـیٰ فی هذه الـنشأة، کذلک الأمر هناک ، فلْیتدبّر.
فإذا صحّ ذلک ینتفی الـبرهان ویتبـیّـن جواز الـتعذیب وإمکان کون الـمذنبـین مستحقّین. واللّٰه الـعالـم بحقائق الاُمور.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 208