البحث الثانی
حول تجرّد القویٰ
من الـمحرّر فی محلّـه والـمقرّر عند أهلـه: أنّ الأصل فی الاستعمالات هو الـحمل علیٰ الـحقیقـة، إلاّ فی صورة استحالـة الـحمل، أو فی صورة قیام الـقرینـة، وفی هذه الآیـة بنوا علیٰ الـمجازیـة؛ لأجل وجود الـقرینـة: وهی أنّ الـقلوب تفقـه والأسماع والأبصار مشغولـة بالـسمع والإبصار فیکون الاستعمال علیٰ خلاف الـحقیقـة.
أقول: لأحد أن یقول: بأنّ الـقویٰ الـمجرّدة بمراتبها الـعقلیـة والإحساسیـة، لیست محسوسـة حتّیٰ یتبـیّـن لنا: أنّها لیست مختومـة ولا مغشیّـة، فإذا قال اللّٰه تعالـیٰ: «خَتَمَ اللّٰهُ عَلَیٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَیٰ سَمْعِهِمْ»، وکان الـفاعل هو الله تعالـیٰ، وکان محطّ الـفعل الـقلب، وهی مرتبـة الـنفس الـعلیا غیر الـقابلـة للإحساس والـقوّة الـسامعـة، وهی أیضاً غیر قابلـة للدَّرْک الـحسّی، ومثلها الـباصرة، ولا یکون الـمراد الاُذُن، ولا الـبصر الـظاهری، ولا الـجسم الـصنوبری، فلابدّ أن تکون الـنسبـة علیٰ الـحقیقـة، وتکون الآیـة الـشریفـة دلیـلاً علیٰ تجـرّد هذه الـقویٰ الـمندمجـة فی الـنفس والـمتعلّقـة بها.
وبعبارة اُخریٰ: إن ثبت بدلیل قطعیّ خارجیّ أنّ الـنفس مادّیـة، وهکذا
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 198 قواها، فتحمل الآیـة علیٰ الـمجاز فی الإسناد، وإلاّ فقضیّـة الأصل الـمزبور ـ الـمستنبط من بناء الـعقلاء فی الـمحاورات ـ هو الـحمل علیٰ الـحقیقـة الـلازم لکشف حال الـنفس، وأنّها من الـمجرّدات والـلطائف الـروحانیـة، وأنّها تتکدّر بالـمعاصی والآثام، فیطبع علیٰ إدراکها الـعَقْلانی وحسّها الـسمعی، ویجعل علیٰ بصرها الـغشاوة الـتی تناسب ذات الإنسان والـجوهر الـمجرّد؛ من الـطبع والـغشاوة، لا الـغشاوة والـطبع الـجسمانیـین؛ وذلک لأنّ طبع کلّ شیء بحسبـه، وغشاوة کلّ موجود بالـنسبـة.
وفی النتیجة: وصلنا الـیٰ أنّ أرباب الـفضل والـتفسیر ـ صدراً وذیلاً ـ انغمروا فی ماء الـمادّیـة وبحر الـطبـیعـة الـجسمانیـة، فلم یجدوا هناک طبعاً ولا غشاوة، فحملوهما علیٰ ما حملوه، ولو تفطّنوا الـیٰ هذه الـمنزلـة الـرفیعـة وتلک الـلطافـة والـصفاء فی الـجوهر الإنسانی، لحکموا بأنّ هذه الـنسب کلّها علیٰ الـحقیقـة فی هذه الـمنزلـة والـلحظـة، فلا تخلط.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 199