البحث الأوّل
حول الجبر والتفویض
قیل: فی هذه الآیـة أدلّ دلیل وأوضح سبـیل علیٰ أنّ اللّٰه سبحانـه، خالـق الـهُدیٰ والـضلال والـکفر والإیمان.
فاعتبروا أیّها الـسامعون وتعجّبوا أیّها الـمتفکّرون من عقول الـقدریـة الـقائلین بخلق إیمانهم وهداهم، فإنّ الـختم هو الـطبع، فمن أین لهم الإیمان ولو جهدوا وقد طُبع علیٰ قلوبهم وعلیٰ سمعهم وعلیٰ أبصارهم غشاوة؟! فمتیٰ یهتدون؟! أو من یهدیهم من بعد اللّٰه إذا أضلّهم وأصمّهم وأعمیٰ أبصارهم؟! «وَمَنْ یُضْلِلِ اللّٰهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»وکان فعل الله ذلک حقّاً وعدلاً لا ظلماً وجوراً، فإنّما نفعهم ما کان لـه أن یتفضّل بـه علیهم لا ما وجب لهم.
أقول: یا أیّها الـعوامّ ویا أیّها الـمبتدئون الـعارفون بالـلغـة تعجّبوا
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 194 واضحکوا علیٰ عقول الـمجبِّرة، کیف ذهلوا وغفلوا عن هذه الآیـة الـشریفـة الـتی تکون فی حکم الـذیل للآیـة الـسابقـة: «إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّٰهُ»؟! فهم الـذین کفروا من غیر أن یخلق اللّٰه کفرهم بالـمعنیٰ الـذی توهّمـه الـجبابرة الأذلّون والـمجبِّرة الأجهلون.
إذا عرفت ذلک، وعلمت أیضاً: أنّ الـحقائق الـحَکَمیـة والـمعانی الـکلّیـة الـفلسفیـة، لا تُقتَنَص من الإطلاقات الـلُّغویـة والاستعمالات الـعامّـة؛ الأعمّ من الاستعارات والـمجازات والـحقائق؛ وإن کان تظافر الـنسب والـقضایا والـکلمات یوجب حسن الـظنّ بأحد طرفی الـمسألـة، إلاّ أنّ الـمحرّر فی محلّـه عدم إمکان الاتّکاء وعدم حصول الاعتقاد من هذه الـطرق إلاّ للمبتدئین من الـخلق والأراذل من الـناس، دون الـمفکّرین الـمتعمّقین.
وبالـجملـة: إذا تحصّل لک ذلک فاعلم: أنّ مسألـة الـجبر والـتفویض من الـمسائل الـغامضـة الـربوبیـة والـبحوث الـجلیلـة الإلهیـة، وقد سبقت مباحثها فی محالّها بما لا مزید علیها؛ من غیر اختصاصها بمسألـة الـمکلّفین وغیر الـمکلّفین؛ لأنّها بحث عامّ فی جمیع مراتب الـوجود والأعیان، وفی عموم سلسلـة الـعلل والـکائنات؛ حتّیٰ فی دخالـة مقدّمات الـقیاس بالـنسبـة الـیٰ الـعلم بالـنتیجـة، کما مرّ مراراً فی الـکتاب، وأشرنا کراراً فی ذیل الآیات الـیٰ بعض ما یتعلّق بـه؛ حتّیٰ یکون الـقارئ الـکریم علیٰ ذُکْر من ذلک الـیٰ أنّ تصل الـنوبـة الـیٰ الـبحث عنها بمقدّماتها فی ذیل بعض الآیات الـشریفـة وعند بعض الـحکایات والـقصص، کحکایـة موسیٰ علیه السلام
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 195 والـخضر علیه السلام إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.
ومجمل القول فی المقام: أنّ فی نسبـة الـطبع الـیٰ اللّٰه تعالـیٰ دقیقـة لطیفـة، وتکون الـنسبـة علیٰ نعت الـحقیقـة دون الـتوسّع، وهو أنّ معنیٰ الـختم ـ کما عرفت ـ هو الـفراغ عن الـشیء، أو الـفراغ عنـه بجعل سِمَـة علیـه وعلامـة لـه، ولا شبهـة فی أنّ الـفراغ والـختم یتقوّم بالـمبادئ الـخاصّـة الـمعیّـنـة، فکما أنّ الـقویٰ الـعمّالـة تنتهی الـیٰ غایاتها، وتکون تلک الـغایات حاصلـة بعد سیر تلک الـقویٰ الـعمّالـة، ولا تکون تلک الـغایات مُفاضـة علیها إلاّ من الـمبادئ الإلهیـة الـغیـبـیـة، ولا تکون مُفیضـة علیها إلاّ بعد سیر تلک الـقویٰ والـمبادئ الـمادّیـة الـظاهریـة، کذلک الأمر فیما نحن فیـه، فإنّ طبع الـقلوب وجعل الـختم علیها، أو ختم الـقلوب بالفراغ عنها؛ وبجعل الـعلامـة علیها والـسِّمـة لها، بعد سیر أرباب الـقلوب والأسماع والأبصار، حسب اختیاراتهم فی الـمبادئ الـمادیّـة الإعدادیـة؛ باختیار الـکفر والـفسق والإثم والإصرار علیها؛ والـمداومـة والـمزاولـة لها حتّیٰ تصیر ملکـة راسخـة، ویصیر الـکفر وارداً فی حدّ وجوده وموجودیتـه وکمالاً ثانیاً وهمیّـاً لـه، یقتضی ویُهیّـیٔنزول الـصورة الـخاصّـة الـمتعصّیـة عن قبول أیّـة هدایـة کانت، ویوجب أن تنتهی هذه الـمادّة الـسیّـالـة الـیٰ مرتبـة من الـقساوة والـبعد والـشقاوة والانحراف، حتّیٰ تکون الـصورة الـمفاضـة من اللّٰه تعالـیٰ، مانعةً عن قبول جمیع أنحاء الاستضاءة والاستنارة والـسعادة والـهدایـة.
وهذا الأمر هی الـحقیقـة الـساریـة فی جمیع مراحل الـوجود الـمتحرّک من الـنقص الـیٰ الـکمال، وفی مجموع منازل الـفیض الـنازل
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 196 تدریجاً حسب الـقوابل والاستعدادات، وحسب الـکمالات الـموجودة حقیقیـة کانت أو وهمیـة.
وإن شئت قلت: نسبـة الـختم الـیـه تعالـیٰ کنسبـة الإضلال لا یستلزم جبراً؛ لأنّ الـخَتْم من شُعب الـرحمـة الـرحمانیـة الـتی تختلف باختلاف الـقوابل، وهی نظیر شعاع الـشمس الـذی یبـیّـض ثوب الـقصّار ویسوّد وجهـه، ویُطیّـب ریح الـورد ویُنتن ریح الـعذرات.
ومن الـغریب ما فی الآلوسی: من أنّ ماهیات الـممکنات معلومـة لـه سبحانـه أزلاً، فهی متمیّـزة فی أنفسها تمیّـزاً ذاتیاً غیر مجعول، وأنّ لها استعدادات ذاتیـة غیر مجعولـة أیضاً مختلفـة الاقتضاءات. انتهیٰ ما أردنا نقلـه.
وأنت تجد ما تخیّـلـه من هذه الـجمل: وهو أنّ الـجبر ثابت إلاّ أنّ الـجابر لیس هو اللّٰه تعالـیٰ، بل اللّٰه یختار ویرید ما تقتضیـه الـماهیّـات حسب ذاتیاتها.
وأیضاً تعلم فساد هذا الـمعنیٰ؛ ضرورة أنّ الـماهیّـات لیس لها شأن حتّیٰ تقتضی شیئاً، ولیست الاستعدادات من الـذاتیات الإیساغوجیـة بالـضرورة، ولا من الـذاتیات فی باب الـبرهان؛ أی الـمحمولات بالـضمیمـة وخوارج الـمحمول، فکن علیٰ بصیرة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 197