الفلسفة والحکمة
ربّما یستدلّ بهذه الآیـة علیٰ أنّ الـهدایـة الـتی حقیقتها الإیمان والإیقان بالـغیب والآخرة، وبالـکتاب وبالـرسالـة من ناحیـة الـربّ ومن مخلوقات الـحقّ ولو کانت هدایـة الـمؤمنین من أنفسهم وباجتهادهم وتفکّرهم کان ینبغی أن یقال: اُولئک علیٰ هدیً من أنفسهم.
وإذا کانت الـهدایـة من الـربّ فالـغوایـة والـضلالـة أیضاً بإرادتـه تعالـیٰ، فلا معنیٰ لدعویٰ صحّـة الـعقوبـة والإنعام علیٰ الأفعال ، بل الآیـة تدلّ علیٰ مقالـة الأشعری، الـقائل بالـجبر؛ لأنّ الـصلاة والـزکاة هدایـة قطعاً، فتکون من ربّهم، فلایتوسّط الإرادة واختیار الـعبد.
ومن الممکن دعویٰ: أنّ الـسبب لفعل الـخیر هی الـهدایـة، وإذا کان الـسبب من اللّٰه تبارک وتعالـیٰ فالـسبب یستند الـیـه، فلا حاجـة فی تتمیم الاستدلال الـیٰ دعویٰ : أنّ فعل الـصلاة من الـهدایـة، مع أنّ الـظاهر من قولـه تعالـیٰ: «أُولَـٰئِکَ»أنّ الـمشار الـیـه هو الـمتّقی الـفاعل للصلاة والـزکاة، لا
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 90 الـمتّقی بنعت الاتّقاء فقط.
أقول: لو تمّ هذا الاستدلال للزم الـمکاذبـة والـمناقضـة بین صدر الآیـة وذیلها؛ لأنّ قولـه تعالـیٰ: «وَأُولَـٰئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ظاهر فی استناد الـفلاح الـیهم، وأنّهم هم الـفائزون حقیقـة، ولایصحّ الـمدح والـثناء علیٰ فعل غیر اختیاریّ.
وحلّ المشکلة: أنّ مقتضیٰ ما بُرهن [علیـه] فی محلّـه أنّ جمیع الـصور والـکمالات تُفاض من الـغیب، وتتنزّل من سماء الـحقّ والـعظمـة حسب اختلاف الاستعدادات، ویکون اختلاف الاستعدادات مستندة الـیٰ الأسباب الاختیاریّـة وغیر الاختیاریـة، ومن الأسباب الاختیاریّـة الـجدّ والاجتهاد فی فهم الـواقعیّـات، فإذا قام الإنسان، وسلک طریق الـوصول الـیٰ الـحقائق والـتوحید والإیمان، هداه اللّٰه تعالـیٰ، فیکون من «أُولَـٰئِکَ عَلَیٰ هُدیً مِنْ رَبِّهِمْ»، ولمکان قیامهم بتحصیل تلک الـهدایـة، یکون اُولئِک هم الـمفلحین، فإذا کانت إرادتهم دخیلـة فی حصول صورة الـهدایـة یصحّ مدحهم والـثناء علیهم.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 91