الثانی : الاستدلال علی جواز تقلید المفضول بالروایات
واستدلّ القائلون بروایات :
منها : الروایة المنقولة عن تفسیر الإمام العسکری علیه السلام . ولفظ الروایة مختلف جدّاً ، ونحن ننقلها عن تفسیر «البرهان» للمحدّث البحرانی رحمه الله ، أوردها فی تفسیر قوله تعالی : «وَمِنْهُمْ أُمِّیُّونَ لا یَعْلَمُونَ الْکِتابَ إِلاّ أَمانِیَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ یَظُنُّونَ» ما هذا لفظه :
قال فقال رجـل للصادق علیه السلام : فإذا کـان هـؤلاء القوم لایعرفون الکتاب إلاّ بما یسمعونه مـن علمائهم . . . إلی أن قال : وهـل عوام الیهود إلاّ کعوامنا یقلّدون علمائهم ؟ فإن لم یجـز لاُولئک القبول مـن علمائهم لم یجـز لهؤلاء القبول مـن علمائهم .
فقال علیه السلام : «فرق من جهة واستواء من جهة ؛ أمّا من حیث الاستواء : فإنّ الله قد ذمّ عوامنا بتقلیدهم علمائهم ، کما ذمّ عوامهم ، وأمّا من حیث افترقوا فلا» .
قال : بیّن لی ذلک یابن رسول الله . قال علیه السلام : «إنّ عوام الیهود کانوا قد عرفوا علمائهم بالکذب الصراح ، وبأکل الحرام والرشا وبتغییر الأحکام عن واجبها بالشفاعات والعنایات» .
إلی أن قال : «فلذلک ذمّهم لما قلّدوا مـن قد عـرفوا أنّـه لایجـوز قبول خبره ولا تصدیقه» .
إلی أن قال : «وکذلک عوام اُمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 633 والعصبیة الشدیدة والتکالب علی حطام الدنیا وحرامها . . . فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل الیهود ، الذین ذمّهم الله تعالی بالتقلید لفسقة فقهائهم ، فأمّا من کان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدینه ، مخالفاً علی هواه ، مطیعاً لأمر مولاه فعلی العوام أن یقلّدوه . . .» إلی آخره ، دلّ بإطلاقه علی جواز تقلید المفضول ؛ وافق قوله قول الأفضل أو لا .
وفیه أوّلاً ـ مع کونه ضعیف السند ـ أنّه لا إطلاق له ، وأنّه لیس بصدد البیان من هذه الجهة حتّی یتمسّک بإطلاقه ؛ إذ الکلام قد سیق لبیان الفرق بین علمائنا وعلمائهم ، لا لبیان لزوم التقلید للعوام حتّی یؤخذ بإطلاقه فی صورتی وجود الأفضل وعدمه وموافقتهما وعدمها .
وثانیاً : أنّ ظاهر الحدیث صحّة التقلید فی الاُصول والعقائد إذا أخذوها عمّن هو صادق فی حدیثه غیر متجاهر بفسقه ، ولا متکالب فی اُمور الدنیا ؛ وأنّ مذمّة الیهود لیس لأجل أنّهم قلّدوا علمائهم فی اُصول دینهم ، بل لأجل أنّهم قلّدوا علماء لیس لهم أهلیة .
وعلیه : فلو قلّد عوام المسلمین عالماً صائناً لنفسه حافظاً لدینه . . . إلی آخره فیما کان الیهود یقلّدون فیه من الاُصول والعقائد لما کان به بأس ، وهو باطل بضرورة الدین . وإخراجها عن مصبّ الحدیث إخراج المورد المستهجن .
وتوهّم : أنّ الیهود کانوا یقلّدون فی اُصول عقائدهم علمائهم ، لکن کان یحصل لهم العلم من أقوالهم ؛ لحسن الظنّ بهم ، فلیکن تقلید عوامنا من علمائهم فی الاُصول کذلک .
مدفوع ؛ بأنّه خلاف تنصیص الروایة ؛ حیث قال : ««وإن هم إلاّ یظنّون» ما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 634 تقول رؤساؤهم من تکذیب محمّد صلی الله علیه و آله وسلم فی نبوّته . . .» إلی آخره .
أضف إلیه : أنّه لو کان حصل لهم العلم من أقوال علمائهم لما کان لهم ذمّ ولا محذور .
وبالجملة : أنّ مصبّ البحث فیها إنّما هو فی التقلید الظنّی فی الاُصول والعقائد بترخیص قسم ـ وهو التقلید عمّن له صیانة وحفاظة ـ والمنع عن آخر ، والالتزام بجوازه فیها غریب جدّاً .
ومنها : صدر المقبولة ؛ أعنی «ینظران إلی من کان منکم ممّن قد روی حدیثنا . . .» إلی آخره ؛ فإنّ إطلاقها یعمّ الشبهات الحکمیة ، کما یعمّ رأی الفاضل والمفضول ؛ اختلفا أو اتّفقا ، خرج عنه مورد واحد ـ وهو اختلاف الحکمین ـ فقد نصّ الإمام فیه بالأخذ بقول الأفقه ، وبقی الباقی تحت إطلاقه .
وفیه : أنّ مصبّها القضاء والحکومة ، فلا ارتباط لها بباب التقلید ، فلا یجوز التمسّک بصدرها علی جواز تقلید المفضول ، ولا بذیلها علی لزوم تقلید الأعلم عند المخالفة . وأمّا حدیث تنقیح المناط فسیأتی جوابه فی البحث عن المشهورة .
ومنها : المشهورة المتقدّمة : «اجعلوا بینکم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ؛ فإنّی قد جعلته علیکم قاضیاً . . .» إلی آخره .
بتقریب : أنّ حجّیة قضائه فی الشبهات الحکمیة یدلّ علی حجّیة فتواه فی غیر القضاء بالملازمة العرفیة ، أو بإلغاء الخصوصیة ، أو بتنقیح المناط ، أو بأنّ قوله علیه السلامفی المقبولة : «فإذا حکم بحکمنا . . .» إلی آخره ظاهر فی إلغاء احتمال الخلاف عن فتوی الفقیه ؛ إذ لیس المراد علم المترافعین بأنّ الرجل حکم بحکم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 635 الأئمّة ، وأنّی لهم ذلک ؟ ! بل المراد جعل فتواه طریقاً إلی حکمهم ورأیهم علیهم السلام ، وهذا معنی حجّیة فتواه فی نفسه قبل قضائه ، فیؤخذ بإطلاقه فی موارد تخالف الفاضل والمفضول .
وفیه : أنّ المشهورة والمقبولة لا تدلاّن علی حجّیة الفتوی حتّی یؤخذ بإطلاق الحجّیة فی موارد الاختلاف .
أمّا إلغاء الخصوصیة فإنّما یتحقّق فیما إذا لم یکن الحکومة فی نظر العرف ذات خصوصیة غیر موجودة فی الفتوی ، لأجلها جعل الشارع حکم الحاکم نافذاً والخصوصیة واضحة ؛ فإنّ رفع الترافع والتشاجر بین المترافعین لا یحصل إلاّ بفصل حاکم ثالث نافذ حکمه ، ولا یتحقّق الفصل إلاّ به غالباً ؛ لا بالأمر بالاحتیاط ولا بالتصالح .
وأمّا العمل بفتوی الفقیه فی موارد الاحتیاج إلیها فربّما یکون المطلوب درک الواقع علی الوجه الأتمّ ، أو ببعض مراتبه إذا تعذّر الاحتیاط ، ولا یکون العمل بقول الفقیه مطلوباً .
فدعوی التلازم بین الحجّیتین أو إلغاء الخصوصیة ضعیفة جدّاً .
ومثله دعوی تنقیح المناط القطعی . نعم قوله : «فإذا حکم بحکمنا» وإن کان یشعر بإلغاء احتمال الخلاف فی فتواه لکنّه یقتصر علی محلّه ـ الحکومة والقضاء ـ فقط ، وإسراؤه إلی محلّ آخر یحتاج إلی دلیل آخر .
ومنها : التوقیع الرفیع : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ؛ فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله علیهم» .
بتقریب : أنّ قوله «أمّا الحوادث» أعمّ من الشبهات الحکمیة . وأنّ معنی قوله
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 636 «فإنّهم حجّتی» هو حجّیة أقوالهم وآرائهم ؛ إذ لا محصّل لجعل الحجّیة لرواة الأحادیث بما هم رواة ، ما لم یصرف إلی حجّیة ما یروونه وینقلونه .
وقد تقدّم منّا : أنّ أهل الروایة کانوا أصحاب الآراء والفتاوی أیضاً وکان الفتاوی تلقی بصورة الروایة ، ویرشد إلی ذلک قوله : «وأنا حجّة الله » فإنّ الحجّة قول الإمام وفعله وتقریره لانفسه ، وحمله علی حجّیة الأحادیث المنقولة عنهم بواسطتهم خلاف الظاهر .
وفیه ـ بعد تسلیم هذه المقدّمات ـ أنّ التوقیع مقطوع الصدر ؛ لأنّ قوله : «وأمّا الحوادث» بصدد الجواب عن سؤال حذف فیه ، ومن المحتمل أن یکون السؤال راجعاً إلی القضاء وفصل الترافع ، فینحصر حجّیة رأیهم فیه دون الفتوی ؛ فضلاً عن أن یؤخذ بإطلاقه ، مضافاً إلی ضعف سنده .
ومنها : ما رواه الکشّی بسند ضعیف عن أحمد بن حاتم بن ماهویه ، قال : کتبت إلیه ـ یعنی أبا الحسن الثالث ـ أسأله عمّن آخذ معالم دینی ؟ وکتب أخوه أیضاً بذلک . فکتب إلیهما : «فَهِمت ما ذکرتما ، فاصمدا فی دینکما علی کلّ مسنّ فی حبّنا ، وکلّ کثیر القدم فی أمرنا ؛ فإنّهما کافوکما إن شاء الله » .
وفیه : أنّ الروایة تعطی أنّ الرجوع إلی العالم کان ارتکازیاً لـه ، غیر أنّـه کان یتطلّب الشخص الذی لابدّ له من الرجوع إلیه ، کما هـو الحال فی أکثر الروایات الواردة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 637 فإن قلت : ما ذکر من الجواب لایضرّ ؛ فإنّ الغرض نفی لزوم الرجوع إلی الفاضل ، وهو حاصل ؛ لأنّ الإمام لم یذکر من شرائط من یرجع إلیه کونه أفقه أو أعلم ، واکتفی بما ذکر من الشروط .
قلت : بعد کون الجواب بعد الفراغ عن ارتکازیته ـ والارتکاز هو الرجوع إلی الأعلم ـ لا وقع لهذا الإشکال .
وهاهنا روایات کثیرة نقلها الکشّی وغیره ، وفیها الصحیح وغیره ، فیظهر منها أنّ رجوع الناس إلی الفقهاء لأخذ معالم دینهم ـ الذی هو عبارة اُخری عن التقلید ـ کان متداولاً ، ویستفاد منها اُمور اُخر ، کما سننبّه علیها بعد نقل بعضها ، وإلیک نصوصها :
1 ـ صحیحة ابن أبی یعفور قال : قلت لأبی عبدالله علیه السلام : إنّه لیس کلّ ساعة ألقاک ، ولا یمکن القدوم ، ویجیء الرجل من أصحابنا فیسألنی ، ولیس عندی کلّ ما یسألنی عنه . فقال : «ما یمنعک عن محمّد بن مسلم الثقفی ؛ فإنّه سمع من أبی ، وکان عنده وجیهاً» .
2 ـ روایة شعیب العقرقوفی : قلت لأبی عبدالله علیه السلام : ربّما احتجنا أن نسأل عن الشیء فممّن نسأل ؟ قال : «علیک بالأسدی» ؛ یعنی أبا بصیر .
3 ـ روایة عبد العزیز بن المهتدی والحسن بن علی بن یقطین جمیعاً عن الرضا علیه السلامقال : قلت له لا أکاد أصل إلیک فی کلّ ما احتاج إلیه فی معالم دینی أفیونس بن عبدالرحمان ثقة آخذ عنه ما احتاج إلیه معالم دینی ؟ فقال : «نعم» .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 638 4 ـ روایة معاذ بن مسلم قال : قال لی أبو عبدالله علیه السلام : «بلغنی أنّک تقعد فی الجامع فتفتی الناس» . قلت : نعم . . . إلی آخره .
وغیرها ممّا مرّ بعضها .
یستفاد من تلک الروایات اُمور :
الأوّل : تداول رجوع الناس إلی الفقهاء لأخذ معالم دینهم بالاستفتاء عنهم ، وقد مرّ توضیح ذلک .
الثانی : جواز رجوع الفقیه إلی الأفقه إذا لم یکن له طریق إلی الواقع ، کما أرجع الإمام الفقیه ؛ أعنی ابن أبی یعفور ، إلی الأفقه منه ؛ أعنی محمّد بن مسلم الثقفی ، کما مرّ .
وما أوضحنا حاله من أنّه یحرم علی من له قوّة الاستنباط الرجوع إلی الغیر ، وأنّ تمام الموضوع لعدم جواز الرجوع وجود نفس تلک القوّة لاینافی مع ما ذکر فی الروایة ؛ لأنّ ما ذکرنا إنّما فیما إذا کان للجاهل القادر علی الاستنباط طریق إلی الواقع ، کما فی هذه الأعصار ؛ حیث جاءت الروایات مدوّنة ومجتمعة فی الاُصول والجوامع ، وأمّا إذا لم یکن له طریق إلی الواقع لأجل تشتّت الروایات وعدم تدوّنها فی جامع أو جوامع ـ کعصر ابن أبی یعفور ـ فلا مناص عن الرجوع إلی الأفقه ، مع احتمال أنّ رجوع ابن أبی یعفور إلی الثقفی لأخذ الحدیث ، غیر أنّه کان له النظر والاجتهاد فیما یسمعه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 639 الثالث : أنّه یجوز الرجوع إلی الفقیه مع وجود الأفقه .
لکن یمکن أن یقال : إنّ الرجوع إلی الفقیه مع وجود الأفقه لعلّه کان لأجل عدم التمکّن منه ، کما یظهر من نفس الروایات . علی أنّ البحث إنّما هو فیما إذا علم تخالفهما فی الرأی تفصیلاً أو إجمالاً . واستفادة جواز الرجوع إلیه فی هذه الحالة مشکل ؛ لعدم الاختلاف بین فقهاء الأصحاب فی تلک الأعصار ؛ فإنّ المراجع فی تلک الروایات کانوا بطانة علوم الأئمّة ومهبط أسرارهم ، کما أوضحنا حالها .
فتلخّص : أنّه لم یقم دلیل علی جواز الرجوع إلی المفضول مع وجود الفاضل ، وعرفت : أنّ مقتضی الأصل عدم الجواز .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 640