جولة حول وجوب دفع الضرر المحتمل
ربّما یتوهّم : ورود حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل علی الحکم العقلی المذکور من قبح العقاب بلا بیان ، بتوهّم : أنّ الأوّل بیان بلسانه ، فیصیر العقاب مع البیان .
وهذا فاسد ؛ سواء اُرید من الضرر العقاب الاُخروی أو اُرید غیره :
أمّا الأوّل : فلأنّ من الواضح أنّ الکبری بما هی هی لا ینتج شیئاً فی عامّة الموارد ما لم ینضمّ إلیه الصغری ، فالعلم بوجوب دفع الضرر کالعلم بقبح العقاب بلا بیان لا ینتجان إلاّ إذا انضمّ إلی کلّ واحد صغراه .
فیقال فی الاُولی : إنّ العقاب فی ارتکاب محتمل الحرمة أو ترک محتمل الوجوب محتمل ، ویجب دفع الضرر المحتمل ؛ فینتج وجوب الاحتراز عن محتمل التکلیف .
ویقال فی الثانیة : إنّ العقاب علی محتمل التکلیف بعد الفحص التامّ وعدم العثور علیه عقاب بلا بیان ، والعقاب بلا بیان قبیح ـ أی یمتنع صدوره عن المولی الحکیم العادل ـ فینتج : أنّ العقاب علی محتمل التکلیف ممتنع .
إذا عرفت ذلک فنقول : إنّ القیاس الثانی مرکّب من صغری وجدانیة وکبری برهانیة ، فالنتیجة المتحصّلة منهما قطعیة بتّیة .
وأمّا الأوّل : فالصغری فیه لیست أمراً وجدانیاً فعلیة ، بل صحّة صغراه یتوقّف علی اُمور ؛ إمّا تقصیر العبد فی الفحص عن تکالیفه ، أو کون المولی غیر حکیم أو غیر عادل ، أو کون العقاب بلا بیان أمراً غیر قبیح . فلأجل واحد من هذه الاُمور یصیر العقاب محتملاً ، والمفروض عدم تحقّق واحد منها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 88 فظهر : أنّ الصغری فی الثانی وجدانیة قطعیة فعلیة ، أمّا الصغری فی الأوّل معلّقة علی تحقّق واحد من هذه الاُمور ، والمفروض عدم تحقّقها . فهذا القیاس تامّ فعلی غیر معلّق علی شیء ، وتمامیة ذاک مبنیة ومعلّقة علی بطلان القواعد المسلّمة .
ولا شکّ عندئذٍ فی حکومة القیاس المنظّم من المقدّمات الفعلیة علی المتوقّف علی اُمور لم یحصل واحد منها ؛ بمعنی أنّ القیاس الثانی دافع لصغری القیاس الأوّل .
ولعلّه إلی ذلک ینظر کلمات القوم ، وإلاّ فظاهر کلماتهم من ورود إحدی الکبریین علی الاُخری غیر صحیح ؛ فإنّ النزاع لیس بین الکبریین ، بل صحّتهما ممّا لا إشکال فیه ، وصدقهما لا یتوقّف علی وجود مصداق لصغراهما ؛ إذ العقاب بلا بیان قبیح ـ کان بیان فی العالم أو لا ـ کما أنّ دفع الضرر المحتمل واجب ـ کان الضرر محتملاً أو لا ـ فاحتمال الضرر فی بعض الموضوعات وتحقّق البیان کذلک غیر مربوط بحکم الکبریین وموضوعهما ، فلا یکون إحدی الکبریین واردة أو حاکمة علی الاُخری قطّ ، بل أحد القیاسین بعد تمامیة مقدّماته وجداناً أو برهاناً یدفع صغری القیاس الآخر بالبیان المتقدّم .
وأمّا الثانی ؛ أعنی ما إذا اُرید من الضرر غیر العقاب الاُخروی الموعود جـزاءً للأعمال :
فإن اُرید منه اللوازم القهریة للأعمال التی یعبّر عنه بتجسّم الأعمال وتجسّد الأفعال ، بتقریب أنّها لیست من العقوبات السیاسیة المجعولة ؛ حتّی یرتفع بحکم العقل ، بل صور غیبیة لأفعال الإنسان ، وقد استدلّ أصحاب هذا الرأی بعدّة آیات وأخبار ظاهرة فیما قالوه ، وعلیه فلابدّ من دفع هذا الاحتمال :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 89 فنقول : إنّ ما هو المقرّر عند أصحاب هذا القول : أنّ الأعمال التی تبقی آثارها فی النفس هی الآثار الحسنة النورانیة أو السیئة الظلمانیة ، وأمّا مطلق الأعمال ممّا هی متصرّمة فی عالم الطبع فلا یمکن تحقّقها فی عالم آخر . ولا تکون تلک الأفعال موجبة لخلاّقیة النفس صوراً غیبیة تناسب تلک الأفعال .
وبالجملة : لوازم الأعمال هی الصور المتجسّدة بتبع فعّالیة النفس إذا خرجت عن الجسد فی البرازخ أو بعد الرجوع إلیه فی القیامة الکبری . فالأفعال الطبیعیة التی لم تورث فی النفس صورة ، لا یمکن حشرها وتصوّرها فی سائر العوالم . ومناط هذه التصوّرات هو الإطاعة والعصیان ، لا إتیان مطلق الأفعال .
وإن اُرید به الضرر الدنیوی ففیه : أنّ احتمال مطلق الضرر ـ ولو کان دنیویاً ـ غیر واجبة الدفع ما لم یوجب احتمال العقاب .
فإن قلت : إنّ مع احتمال الضرر یحکم العقل بقبح الارتکاب ، وبالملازمة تثبت الحرمة .
قلت ـ مضافاً إلی أنّ ارتکاب الضرر لیس قبیحاً ، بل هو بلا داعٍ عقلائی سفه ـ إنّ لازم ذلک البیان هو العلم بالتکلیف فی صورة احتماله ، فتأمّل .
فإن قلت : إنّ احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح ، وهو مستلزم لاحتمال العقاب ، وقد علم وجوب دفعه .
قلت ـ مضافاً إلی ما أوردنا علی الأوّل من أنّ ارتکاب الضرر بلا داعٍ عقلائی سفه لا قبیح ، ومعه لا سفه ولا قبح ـ یرد علیه : أنّ الضرر بوجوده الواقعی لا یؤثّر فی القبح ، بل علی فرضه لابدّ من العلم به ، فالعلم به موضوع للقبح ، فمع احتمال الضرر لا یکون قبیحاً جزماً .
أضف إلی ذلک : أنّ الشبهة الموضوعیة والوجوبیة مشترکتان مع الشبهة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 90 التحریمیة فی هذه التوالی المدّعـاة ، فلو کانت للأفعال لوازم قهریـة مؤذیـة لصاحبها لکان علی الشارع الرؤوف الـرحیم إیجاب الاحتیاط ؛ حتّی یصون صاحبها عن هذه اللوازم القهریة . فالترخیص فیهما إجماعاً بل ضرورة ، دلیل علی بطلان تلک المزعمة ، وأنّه لیس هاهنا ضرر اُخروی أو دنیوی واجب الدفع ، کما لا یخفی .
وأظنّ : أنّ هذا المقدار من الأدلّة کافٍ فی إثبات البراءة الشرعیة ، ولنعطف عنان الکلام إلی مقالة الأخباریین .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 91
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 92