إشکال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه
الوجه الثانی من الإشکالات : ـ وهو العمدة فی المقام ـ عدم بقاء الموضوع ؛ فإنّ المشهور عند القوم شرطیة بقاء الموضوع فی جریانه ؛ وإن کان التحقیق عندنا اتّحاد القضیة المتیقّنة مع القضیة المشکوک فیها .
وما هو المتیقّن أو ما هو الموضوع للحکم إنّما هو رأی المجتهد وفتواه ، ولا رأی للمیّت ولا فتوی له ، ولا یتّصف المیّت عند العرف بالعلم ولا بالظنّ ، ومعه لابقاء للموضوع ولا اتّحاد للقضیتین .
وإن شئت قلت : إنّ مدار الفتوی إنّما هو الظنّ الاجتهادی ؛ ولذا یقول المجتهد : «هذا ما أدّی إلیه ظنّی ، وکلّ ما أدّی إلیه ظنّی یجوز لی الإفتاء به» ، فإذا مات لم یبق له ظنّ ولا علم ، فلا یبقی له رأی ولا فتوی ، ومعه کیف یجوز الاستصحاب ؟ !
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 662 وفیه : أنّ ملاک عمل العقلاء بآراء ذوی الفنون وأصحاب الصنائع ومن له شغل التقویم إنّما هو لکون الرأی بنحو الجزم بوجوده الحدوثی طریقاً إلی الواقع ، وصفة الطریقیة ثابتة له ، کان صاحبه بعد إبراز رأیه حیّاً أو میّتاً ؛ فإنّ مناط الحجّیة وملاک الطریقیة عندهم قائم بنفس الإخبار جزماً عن أمر واقعی .
فلو أفتی الفقیه بأنّه لایصحّ الصلاة فی وبر ما لا یؤکل لحمه فنفس هذا الفتوی ـ بما هو هو من غیر دخالة أمر ـ کاشف عن الواقع ، طریق إلیه ومنجّز له ، ولاینسلخ هذه الأوصاف عنه أصلاً ـ لا بموته ولا بنومه ـ إلاّ بنقضه وتبدّل رأیه والجزم علی خلافه .
هذا حال السیرات العقلائیة فی العمل بالأمارات ، وقد عرفت : أنّ الدلیل الوحید فی باب التقلید إنّما هو السیرة العقلائیة التی عرفت ملاک العمل بها .
وأمّا الأدلّة الشرعیة ـ فلو فرض وجودها ـ فهی غیر خارجة عن حدودها ؛ فإذا کانت الحجّیة والطریقیة والتنجیز قائمة بنفس الرأی فقط فلو مات صاحبه وشکّ فی دخالة الحیاة فی جواز العمل به شرعاً فلا مانع من استصحابه ؛ لبقاء الموضوع واتّحاد القضیتین المتیقّنة والمشکوکة .
فإنّ ما هو الموضوع أو ما هو المتیقّن إنّما هو رأی الفقیه وجزمه بالحکم وإظهاره طریق إلی الواقع بوجوده الحدوثی ، وهو المناط لجواز العمل به فی نظر العقلاء ، وقد أمضاه الشرع أیضاً بهذا المناط ، لکن نشکّ فی دخالة الحیاة فیه شرعاً علی وجه التعبّد ، فلا شکّ فی جواز استصحابه ؛ لاتّحاد المتیقّن والمشکوک ، والشکّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 663 إنّما هو فی دخالة شرط خارج عمّا هو المناط فی نظرهم .
وإن شئت قلت : إنّ رأی الفقیه وإبرازه بصورة الجزم جعل کتابه طریقاً إلی الواقع لدی العقلاء وجائز العمل فی زمان حیاته ، ونشکّ فی بقاء جواز العمل علی طبقه بعد موته ، والأصل بقاؤه .
فإن قلت : إنّ الطریقیة والحجّیة والتنجیز أوصاف إیجابیة وأحکام فعلیة ، فیحتاج إلی وجود الموضوع ، فکیف یصلح أن یکون الرأی بوجوده الحدوثی موضوعاً لهذه الأحکام الفعلیة ، بعد مضی زمان طویل ؟ ! ولو قیل : إنّ الرأی بوجوده الحدوثی أوجب أن یکون کتابه الموجود فعلاً طریقاً وحجّة ومنجّزاً ، فهو خروج عن طور البحث الدائر بینهم .
قلت : قد قلنا إنّ الرأی والجزم بوجودهما الحدوثی جعلا الکتاب أو الرأی ـ بمعنی حاصل المصدر ـ جائز العمل وحجّة وطریقاً إلی الواقع ، ومع الشکّ یستصحب جواز العمل والحجّیة والطریقیة ونحوها ، والرأی الذی عدم هو الرأی القائم بنفسه لا الرأی بمعنی حاصل المصدر .
ثمّ إنّ الشیخ الأعظم رحمه الله قد تسلّم جریان الاستصحاب وبقاء الموضوع بتقریب : أنّه إذا قلنا بأنّ الفتوی هی عبارة عن نقل الحدیث علی وجه المعنی ـ علی ما یدّعیه الأخباری ـ لکنّه خلاف الواقع ، انتهی کلامه .
وفیه : أنّ مناط الحجّیة فی الفتوی والإخبار أمر واحد ؛ فإنّ الکاشف عند العقلاء فی إخبار الثقة إنّما هو إخباره جزماً عمّا سمعه ورآه ، فلو أخبر بلا جزم لا یصیر طریقاً ولا یتّصف بالکاشفیة ، ولا یجوز العمل به عندهم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 664 ولو أخبر عن جزم یتّصف بهذه الأوصاف ، حتّی بعد موته وعـدم بقاء جزمـه ؛ لأنّ إخباره علی وجه الجزم إنّما جعله حجّة إلی الأبد ، ما لم ینقضه نفسه أو حجّة اُخری .
فلو شکّ فی بقاء أوصافه وأحکامه بعد موت الراوی ـ لاحتمال دخالة حیاته تعبّداً ـ یستصحب بقاؤها بلا إشکال ؛ لاتّحاد القضیتین ، أو لبقاء الموضوع عندهم .
وما ذکرنا من الإشکال والجواب فی الفتوی جارٍ فیه ؛ حذو النعل بالنعل .
ثمّ إنّه قدس سره قد منع جریان الاستصحاب وحکم بعدم بقاء موضوعه بقوله : إنّ الظنّ فی الأحکام الظاهریة إنّما یکون موضوعاً لما یترتّب علی المظنون ؛ فإنّه هو المقصود من حجّیة الظنّ فی الاُمور الشرعیة والأحکام الفرعیة ؛ فإنّه یکون وسطاً فی القیاسات التی یطلب فیها ترتیب آثار متعلّقات تلک الظنون .
مثلاً إنّ شرب الخمر المظنون حرمته بواسطة أمارة ظنّیة معتبرة إنّما یستفاد الحکم فیه فی مقام العمل والظاهر بواسطة الظنّ .
کأن یقال : إنّ شرب الخمر ممّا یظنّ حرمته بواسطة أمارة کذائیة ، وکلّ ما یظنّ حرمته فیجب ترتیب آثار الحرمة الواقعیة التی کان الظنّ طریقاً إلیه علی ذلک المظنون ؛ فینتج وجوب ترتیب الآثار علی هذه الحرمة المظنونة ؛ من لزوم الاجتناب عنها وغیرها من الأحکام ، انتهی بنصّ عبارته .
وفیه : أنّ ما ذکره قدس سره عبارة عن الحجّة المنطقیة ، ولیست معنی الحجّیة فی الأمارات وقوعها حدّاً وسطاً لإثبات الحکم الشرعی ، بل المراد من الحجّیة فیها لیس إلاّ تنجیز الواقع علی فرض صدقها وصحّة عقوبة المکلّف لو تخلّفت ، والحجّیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 665 بهذا المعنی لا تختصّ بالأمارات ، بل یصحّ إطلاقه علی القطع ، بل وبعض الشکوک .
وعلیه : فالحکم الشرعی إنّما هو مترتّب علی موضوعه الواقعی دون ما قام علیه الأمارة ، ولا المظنون بما هو مظنون ، کما یفیده ظاهر کلامه .
وأمّا ما ربّما یقال فی حلّ الإشکال : من أنّ الموضوع للحجّیـة إنّما هو الرأی الموجود فی موطنه وزمن حیاته ، فهذا الظنّ المتحقّق فی ظرفه وزمن حیاته حجّة مطلقاً ـ حتّی الیوم الذی مات صاحبه وزال رأیه ـ لکن نفی وجوده المقیّد لایوجب ارتفاع وجوده المطلق عن صحیفة الواقع .
ضعیف ؛ لأنّ إثبات الحجّیة الفعلیة وجواز العمل کذلک لأمر معدوم فعلاً غیر صحیح ، فالمحمول الفعلی الإیجابی یحتاج إلی موضوع مثله .
وبعبارة اُخری : ما هو الموضوع للحجّیة وجواز العمل إنّما هو الظنّ الموجود بقید أنّه موجود ، ومع ارتفاعه لا معنی لاستصحابه .
نعم ، لو کانت القضیة حینیة مطلقة ؛ بأن کان الموضوع هو الظنّ فی حال الوجود أمکن استصحابه ؛ خصوصاً علی ما حقّقنا من عدم شرطیة بقاء الموضوع ، وإنّما الشرط اتّحاد القضیتین . ولکنّه لایخلو عن منع وتأمّل ، بل الظاهر : أنّ الموضوع هو الظنّ الموجود بین العقلاء . ولو سلّمنا فالإشکال المتقدّم بحاله ؛ لأنّ حمل الحجّیة الفعلیة علی أمر معدوم غیر صحیح .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 666