استقلال العامّی فی القضاء
وقد استدلّ علی صحّة قضائه بوجوه :
منها : قوله تعالی : «إِنَّ الله َ یَأمُرُکُم أَن تُؤدُّوا الأَماناتِ إِلیٰ أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحکُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ الله َ نِعِمّا یَعِظُکُم بِهِ إِنَّ الله َ کانَ سَمِیعاً بَصِیراً» .
بتقریب : أنّ الخطاب شامل للمجتهد والعامّی المقلّد العارف بالعدل ، فإذا وجب علیه الحکم بالعدل وجب القبول ، وإلاّ لزم لغویة إیجاب الحکم بالعدل ، نظیر ما قرّروه من الملازمة بین حرمة الکتمان ولزوم القبول .
وفیه : أنّ المخاطب فی صدر الآیة مَن عنده الأمانة ، وفی ذیلها من له الحکم والقضاء ، لاعنوان الناس ولا المؤمنین ، فلا إطلاق له من هذه الجهة .
ویصیر محصّل الآیة : أنّ من عنده الأمانة فلیردّها إلی أهلها ، ومن له الحکم والقضاء فلیحکم بالعدل .
وأمّا الحاکم فمن هو ؟ فلابدّ أن یحرز بدلیل آخر .
وإن شئت قلت : إنّه بصدد بیان لزوم الحکم بالعدل ، لا أصل لزوم الحکم والقضاء بین الناس ، فلا إطلاق لها من هذه الناحیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 592 ویؤیّد ما ذکرنا ؛ من أنّ الخطاب متوجّه إلی من له الحکم ، وفرغنا عن کونه حاکماً : ما رواه الصدوق عن المعلّی بن خنیس عن الصادق علیه السلام قال : قلت له : قول الله عزّ وجلّ : «إِنَّ الله َ یَأمُرُکُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأَماناتِ إِلیٰ أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ» .
فقال : «عدل الإمام أن یدفع ما عنده إلی الإمام الذی بعده ، وأمر الأئمّة أن یحکموا بالعدل ، وأمر الناس أن یتّبعوهم» .
وما ذکره علیه السلام تفسیر وتوضیح لما یعطیه الآیة بنفس ظهوره . علی أنّ منصبی القضاء والحکومة لم یکن لمطلق الناس ، منذ هبط الإنسان إلی مهد الأرض ، بل کان لطبقة مخصوصة من الاُمراء والملوک وهذه السیرة الجاریة تصیر قرینة متصلة علی کون الخطاب فی قوله : «إذا حکمتم» ، متوجهاً إلیهم دون غیرهم من الطبقات النازلة التی لم یعهد لهم أمر ولا نهی .
ومن ذلک یظهر الجواب عن أکثر ما استدل به الفقیه المحقّق صاحب الجواهر علی جواز استقلال العامّی فی القضاء کالاستدلال بمفهوم قوله تعالی : «وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنزَلَ الله ُ فَأُولَئِکَ هُمْ الْکَافِرُونَ ، أو «هُمُ الفاسِقُون» ، أو «هُمُ الظّالِمُون» فإنّ مفهوم وجوب الحکم بما أنزل الله ، وإطلاقه یشمل المجتهد وغیره علی حذو ما حرّرناه فی الآیة السابقة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 593 والجواب : أنّ الآیات بصدد بیان لزوم الحکم بما أنزل الله وحرمة الحکم بما لم ینزله ، لا وجوب الحکم فلا إطلاق له من هذه الحیثیة ، علی أنّ الخطاب متوجه إلی من له الحکم والقضاء بحیث فرغ عن ثبوت هذا المنصب له دون غیره .
ومنها : ما رواه الصدوق بسند صحیح عن أبی خدیجة سالم بن مکرَم الجمّال قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : «إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه» ، بتقریب أنّ المراد من العلم لیس هو العلم الوجدانی بل أعم منه ومن قیام الحجّة علی الحکم والمقلّد عالم بالحکم بهذا المعنی .
وفیه : أنّ المقلّد غیر عالم بشیءٍ من قضایاهم لأنّه إمّا أن یستند إلی فتوی الفقیه فی الواقعة ، فهو ـ إذن ـ عالم بشیء من قضایا مقلّده ، لا بشیء من قضایاهم .
وإمّا أن یستند إلی إخباره عن قضایاهم فهو لایتجاوز عن کونه خبراً مرسلاً
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 594 لایجوز الرکون إلیه ، ولو صحّح له السند فلا یجوز له العمل ؛ لأنّه یحتاج إلی الفحص عن المعارض ومخصّصه ومقیّده ، وهو خارج عن حیطة اقتداره .
والحاصل : أنّ قوله : «یعلم شیئاً من قضایانا» مختصّ بالفقیه أو منصرف إلیه . ولو استدلّ به علی جواز استقلال المتجزّی فی القضاء لکان له وجه .
ومنها : صحیحة الحلبی قال : قلت لأبی عبدالله علیه السلام : ربّما کان بین الرجلین من أصحابنا المنازعة فی الشیء ، فیتراضیان برجل منّا .
فقال : «لیس هو ذاک ، إنّما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط» .
ومرکز الاستدلال أمران :
إطلاق قول الراوی «رجل منّا» وشموله للفقیه وغیره ، وإن شئت قلت : ترک الاستفصال من الإمام دلیل العموم .
وحصر من لایجوز علیه الرجوع فیمن یجبر الناس علی حکمه بالسوط والسیف ، وغیره من الفقیه ومقلّده یجوز لهم الرجوع .
وفیه : أنّ الکلام قد سیق إلی أنّ رفع الأمر إلی قضاة الشیعة لیس من قبیل رفع الأمر إلی قضاة الجور ، فلا إطلاق لها من جهة اُخری .
علی أنّ الحصر إضافی بلا إشکال ؛ فإنّه لایجوز الاعتماد علی حکم غیر الشیعة ؛ وإن لم یکن له سوط ولا سیف .
علی أنّ الروایة تشعر بوضوح أنّ الحدیث کان مسبوقاً بکلام آخر ؛ حیث
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 595 قال علیه السلام : «لیس هو ذاک» فأسقطه الراوی وحذف ما جری بینهما من الکلام ، ومعه لایجوز الاعتماد علی هذا الحصر ، ولا علی الإطلاق المدّعی ؛ خصوصاً مع ما جرت علیه السیرة منذ زمن النبی من تصدّی العلماء والفقهاء منصب القضاء ، وهی تمنع من انعقاد أیّ إطلاق . ثمّ علی فرض وجوده یقیّد بالمقبولة .
ومنها : أنّ الاجتهاد الدائر فی أعصارنا لم یکن موجوداً فی عصر النبی والأئمّة من بعده ، فحینئذٍ حمل قوله : «ممّن روی حدیثنا . . .» إلی آخره علی من تحصّل له قوّة الاستنباط وردّ الفروع علی الاُصول بالمعنی الدارج فی أعصارنا ؛ من قبیل حمل الکلام علی ما لم یکن موجوداً فی عصر صدوره .
مع أنّه صدر لضرب القاعدة علی عامّة الأعصار ، فلا مناص من حمله علی المعنی الدارج فی جمیع الأجیال ؛ وهو الوقوف علی الأحکام ، وما هو حلال وحرام ؛ إمّا بأخذه عن الإمام ، أوعن الفقیه .
ومثل المقلّدین فی عصرنا مثل المحدّثین فی أعصارهم ، فهم کانوا یفزعون فی معالمهم إلی أئمّتهم أو تلامذتهم ، واُولئک یرجعون إلی الفقهاء العارفین بحلالهم وحرامهم ، فلِمَ جاز لهم التصدّی دون اُولئک ؟
وفیه : أنّ تمام الموضـوع لجـواز القضاء هـو العلم بحلالهم وحـرامهم ؛ سواء کان زمن الغیبة أو زمـن الحضور ، غیر أنّ العلم بهما فی هذه الأعصار ـ لأجـل تشتّت الروایات وتضاربها وبُعد العهد وندرة التواتر وانفصال القرائـن الموجـودة ـ لایحصل إلاّ إذا تحلّی الرجـل بقوّة الاستنباط ؛ حتّـی یعالج بها هـذه النواحـی العائقـة .
فالفقهاء فی هذه الأعصار والمحدّثون فی أجیالهم علیهم السلام مشترکون فی أنّهم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 596 رووا حدیثهم ، وعرفوا حلالهم وحرامهم ، غیر أنّ المحدّثین لقرب عهدهم وتمکّنهم من الأئمّة کان تحصیل العلم بحلالهم وحرامهم علیهم سهلاً غیر عسیر ، إلاّ أنّ علم فقهاء الأعصار ووقوفهم علی أحکامهم یحتاج إلی طیّ مقدّمات وتحصیل مبادٍ یحتاج إلی بذل الجهد واستفراغ الوسع الذی تحصل بهما قوّة الاستنباط والاجتهاد .
فلو قال أحد بشرطیة الاجتهاد فی جواز القضاء فی هذه الأعصار فلا یقصد منه دخالته فی الموضوع وتقوّم الموضوع به ؛ ضرورة أنّ الموضوع فی المقبولة غیره ، بل المقصود منه دخالته فی حصول قیود الموضوع ؛ أعنی ما ساقتها المقبولة من القیود والحدود علی ما عرفت .
وأمّا المقلِّد : فقد عرفت بما لا مزید علیه أنّه خارج عن الموضوع من رأس ، وأنّه لیس ممّن عرف حلالهم وأحکامهم علی ما مرّ .
أضف إلی ذلک : ما سیوافیک بیانه من وجود الاجتهاد بالمعنی المعروف فی أعصارهم بین العامّة والخاصّة : أمّا الخاصّة فسیمرّ علیک بیان ما یدلّ علی وجوده فیهم .
وأمّا العامّة : فإنّهم کانوا أصحاب رأی وقیاس ، وکان المنصوبون من الخلفاء لأمر القضاء ، من الفقهاء وذوی الاستنباط والاجتهاد ، کأبی حنیفة وابن شبرمة وابن أبی لیلی وأضرابهم .
هذا کلّه فی استقلال العامّی للقضاء ، وقد عرفت أنّه لاحظّ للعامّی فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 597