أجوبة المحقّقین عن إشکال التنافی
ولقد أجـاب عـن هـذه العویصة ثلّـة مـن المحقّقین لا بأس بالإشارة إلی تلک الأجوبة :
الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراسانی : من احتمال کون الناقص واجداً لمصلحة ملزمة مضادّة فی مقام الاستیفاء مع المصلحة القائمة بالتامّ ، والتامّ بما هو تامّ مشتمل علی مصلحة ملزمة ، ویکون مأموراً به لا الناقص ، لکن مع الإتیان بالناقص
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 446 یستوفی مقدار من المصلحة المضادّة لمصلحة التامّ ، فیسقط أمر التامّ لأجله ، ویکون الصلاة صحیحة لأجل استیفاء تلک المصلحة ، انتهی .
وهذا الجواب یدفع الإشکال بحذافیره :
أمّا صحّة الصلاة المأتی بها : فلعدم توقّفها علی الأمر واشتمالها علی المصلحة الملزمة .
وأمّا العقاب : فلأنّه ترک المأمور به عن تقصیر والإتیان بالناقص أوجب سقوط أمره قهراً ، وعدمَ إمکان استیفاء الفائت من المصلحة ؛ لأجل عدم اجتماعها مع المستوفاة .
وأورد علیه بعض أعاظم العصر : بأنّ الخصوصیة الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتی به فی حال الجهل إن کان لها دخل فی حصول الغرض من الواجب فلا یعقل سقوطه بالفاقد لها ؛ خصوصاً مع إمکان استیفائها فی الوقت ، کما لو علم بالحکم فی الوقت . ودعوی عدم إمکان اجتماع المصلحتین فی الاستیفاء ؛ لأنّ استیفاء إحداهما یوجب سلب القدرة عن استیفاء الاُخری واضحة الفساد ؛ لأنّ القدرة علی الصلاة المقصورة القائمة بها المصلحة التامّة حاصلة ، ولا یعتبر فی استیفاء المصلحة سوی القدرة علی متعلّقها . وإن لم یکن لها دخل فاللازم هو الحکم بالتخییر بین القصر والإتمام ، غایته أن یکون القصر أفضل فردی التخییر .
وفیه : أنّ الخصوصیة الزائدة لازمة الاستیفاء ، إلاّ أنّها لا دخالة لها فی حصول المصلحة القائمة بالناقص ، فهی ممکنة الاستیفاء ؛ وإن لم ینضمّ إلیه الخصوصیة الزائدة التی لها دخل فی استیفاء الغرض الأکمل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 447 وأمّا عدم الأمر باستیفائها بعد الإتیان بالفرد الناقص : فللتضادّ بین المصلحتین وعدم إمکان استیفائها إلاّ فی ضمن المجموع ، ولا یمکن استیفاؤها بالإتیان بها مستقلّاً أو فی ضمن الناقص الذی لیس فیه مصلحة بعد .
وهذا هو المراد من قول المحقّق الخراسانی من عدم إمکان استیفاء المصلحتین ؛ فإنّ للاستیفاء طریقین : إمّا بالإتیان بها مستقلّاً، أو فی ضمن الناقص غیر القائم به المصلحة ، وکلاهما غیر صحیح .
فما أفـاده : مـن أنّ القـدرة علی الإتیان بالصلاة المقصورة حاصلـة غیر صحیحة ؛ فإنّه خلط بین القدرة علی الصلاة القائم بها لمصلحة وصورة الصلاة ، فهو قادر بعد الإتیان بالناقص علی الثانیة دون الاُولی .
الثانی : ما أفاده بعض محقّقی العصر قدس سره من الالتزام بتعدّد المطلوب ؛ بأن یکون الجامع بین القصر والتمام والجهر والإخفات مشتملاً علی مرتبة من المصلحة الملزمة ، ویکون لخصوصیة القصریة وکذا الجهریة مصلحة زائدة ملزمة أیضاً .
مع کون المأتی به الفاقد لتلک الخصوصیة من جهة وفائه بمصلحة الجامع المتحقّق فی ضمنه مقوّماً للمصلحـة الزائـدة القائمـة بالخصوصیـة القصریـة أو الجهریـة ؛ بحیث لایبقی مع استیفائها به مجال لتحصیل الزائدة القائمة بالخصوصیـة . فیقال أمّا الصحّة : فلوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة القائمة بالجامع وصیرورته بذلک مأموراً به بمرتبة من الأمر المتعلّق بالجامع ضمناً ، وأمّا العقاب : فلتفویته المصلحة اللازمة القائمة بالخصوصیة القصریة ، انتهی .
وحاصلـه : تعلّق أمـر بالجامـع ، وأمـر آخـر بالواجـد للخصوصیـة ، وهـو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 448 مبنی علـی أن یکون المطلق والمقیّـد عنوانین مختلفین ؛ بحیث یـدفعان التضادّ بیـن الأحکام .
وقد قلنا فی مبحث الاجتماع ما هو حقیقة الحال ، ورجّحنا خلافه ؛ قائلاً بأنّ المقیّد عین المطلق مع قید آخر ؛ عینیة اللابشرط مع بشرط شیء ، ومثله غیر کافٍ فی دفع التضادّ بین الأمر والنهی ، والتضادّ بین الأمرین .
اللهمّ إلاّ أن یفرّق بین المقامین ؛ بدعوی أنّ امتناع تعلّق الأمر والنهی بهما لیس لأجل التضادّ بینهما ؛ لعدم التضادّ بین الأحکام ، بل لأمر آخر راجع إلی عدم الجمع بین الإرادتین .
وأمّا المقام فلا مانع یمنع عن تعلّق بعثین إلیه ، وکون المطلق محبوباً والمقیّد محبوباً آخر . فالعطشان المشرف للموت ، الذی یندفع هلاکه بمطلق الماء وبالماء البارد فهو بنحو الإطلاق محبوب ، وبقید أنّه بارد محبوب مؤکّد .
فإن قلت : تشخّص الإرادة بالمراد ؛ فلو صحّ ما حُرّر فی مبحث النواهی ـ من عینیة المطلق مع المقیّد ـ فکیف تتشخّص الإرادتان بشیء ؟ فلو قیل بالمغایرة فهو کما یصحّح اجتماع البعثین یصحّح اجتماع الأمر والزجر .
قلت : نعم ، لکن یکفی فی تشخّصهما اختلاف هویة المتعلّقین ، ولایکفی ذلک فی جواز تعلّق الإرادة المضادّة للاُخری .
الثالث : ما أجاب به الشیخ الأکبر کاشف الغطاء من الالتزام بالترتّب ، وأنّ المأمور به أوّلاً وبالذات هو القصر مثلاً ، فلو عصی وترکه ـ ولو للجهل بالحکم ـ یجب علیه الإتمام .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 449 وأورد علیه بعض أعاظم العصر ـ مضافاً إلی ما ذکره الشیخ الأعظم من عدم إمکان الترتّب ـ بأنّه أجنبی عن الترتّب ؛ لأنّه یعتبر فی الخطاب الترتّبی أن یکون کلّ من المتعلّقین واجداً لتمام ما هو ملاک الحکم ، ویکون المانع من تعلّق الأمر بکلّ منهما هو عدم القدرة علی الجمع ؛ للتضادّ بینهما ، والمقام لیس کذلک ؛ لعدم ثبوت الملاک فیهما ، وإلاّ لتعلّق الأمر بکلّ منهما ؛ لإمکان الجمع بینهما ، ولیسا کالضدّین . فعدم تعلّق الأمر بهما یکشف عن عدم الملاک .
هذا ، مع أنّه یعتبر فی الخطاب الترتّبی أن یکون خطاب المهمّ مشروطاً بعصیان الأهمّ ، وفی المقام لایعقل أن یخاطب التارک للقصر بعنوان العاصی ؛ فإنّه لایلتفت إلیه ، وإلاّ یخرج من عنوان الجاهل ، ولاتصحّ منه حینئذٍ الصلاة التامّة ، فلا یندرج فی صغری الترتّب ، انتهی .
قلت : والکلّ ضعیف :
أمّا الأوّل : فلأنّ البحث مبنی علی صحّة الترتّب .
وربّما یقال بإمکانه فی المقام ؛ وإن لم یکن ممکناً فی غیره ؛ لأنّ الشرط فی المقام للأمر بالتمام یحتمل أن یکون أمراً انتزاعیاً ؛ وهو کونه ممّن لایأتی بالقصر جهلاً قبل التمام ، وهو حاصل من أوّل الأمر .
ومثل هذا الشرط ممّا یمتنع أن یکون شرطاً للأمر بالمهمّ ؛ لاستلزامه وجود أمرین فعلیین متوجّهین إلیه فی زمان واحد مع عجزه ، بخلاف المقام ؛ فإنّه یصحّ أن یجعل شرطاً للأمر بالتمام ؛ لأنّه لایکون فی المقام عاجزاً عن الإتیان بالقصر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 450 والتمام ، إنّما الکلام فی الملاک ، وهو حاصل عند حصول العنوان الانتزاعی .
وفیه : أنّ لازم ما ذکره استحقاق عقابین إذا ترک کلتا الصلاتین ، ولا أظنّ القائل یلتزم به ؛ وإن التزمنا به فی باب الترتّب علی وجه آخر .
أضف إلیه : أنّ ما ذکره خلط بین القدرة علی صورة الصلاة ، وحقیقتها بما لها من الملاک ، والمقدور هو الأوّل لا الثانی ، فهو أیضاً عاجز عن الإتیان بالصلاتین بالمعنی الذی عرفت ، فتأمّل .
وأمّا الثانی : فلأنّه لایشترط أن یکون الضدّ واجداً للملاک من أوّل الأمـر ، بل یکفی حـدوث الملاک عند الجهل بحکم القصر أو عند العصیان . بل لا إشکال فی أنّ الصلاتین واجدتان للملاک ؛ أمّا القصر فواضح ، وأمّا التمام فهو أیضاً صحیح عند عدم الإتیان بالقصر عند الجهل بالحکم ؛ نصّاً وإجماعاً ، وقد وافاک معنی کونهما متضادّین .
وأمّا الثالث : فبأنّه لا یشترط فی الخطاب الترتّبی أن یکون المخاطب متوجّهاً إلی الشرط المأخوذ موضوعاً للأمر الثانوی ، بل یکفی وجوده الواقعی ؛ وإن لم یلتفت کما فی المقام ، فتأمّل . وقد تقدّم فی خطاب الناسی ما یفید فی المقام .
ثمّ إنّ فی المقام أجوبة شتّی ، وفیما ذکرنا غنیً وکفایة .
هذا کلّه فی البراءة العقلیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 451