المطلب الثانی فیما إذا کان الأقلّ والأکثر من قبیل المطلق والمشروط
تفصیل القول فی جریان البراءة فی الجزء المشکوک یغنینا عن إفاضة القول فی الشرط المشکوک ؛ فإنّ المناط فی الجزء والشرط واحد ، غیر أنّا أفردنا البحث عنه ؛ تبعاً للأصحاب :
فنقول : إنّ منشأ انتزاع الشرطیة : تارة یکون أمراً مبایناً للمشروط فی الوجود کالطهارة فی الصلاة ، واُخری یکون أمراً متّحداً معه کالإیمان فی الرقبة .
أمّا الکلام فی الأوّل : فواضح جدّاً ؛ لأنّ داعویة الأمر إلی ذات الصلاة معلوم ؛ سواء تعلّق الأمر بها بلا اشتراط شیء أو مع اشتراطه ، والتقیید والاشتراط ، أو القید والشرط مشکوک فیه ، فیجری أدلّة البراءة ؛ عقلیة کان أو شرعیة .
وأمّا الثانی ـ أعنی إذا کان منشأ الانتزاع متّحداً معه کالإیمان فی الرقبة ـ فتجری البراءة فیه أیضاً .
وتوضیحه : أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو الماهیات والعناوین دون المصادیق الخارجیة ، وقد أقمنا برهانه فیما سبق . وعلیه فالمدار فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر إنّما هو ملاحظة لسان الدلیل الدالّ علی الحکم حسب الدلالة اللفظیة العرفیة ، لا المصادیق الخارجیة .
فلو دار متعلّق الأمر بین کونه مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة فهو من موارد البراءة العقلیة والشرعیة ؛ لانحلال العلم فیه ، ودورانه بین الأقلّ والأکثر ؛ لأنّ مطلق الرقبة وإن کان غیر موجود فی الخارج والموجود منه : إمّا الرقبة الکافرة أو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 321 المؤمنة ، وهما متباینان ، إلاّ أنّ المیزان فی کون الشیء من قبیل المتباینین أو الأقلّ والأکثر لیس المصادیق الخارجیة ؛ لأنّ مجری البراءة هو متعلّقات الأحکام ، وهو العناوین المأخوذة فی لسان الدلیل ، لا المصادیق الخارجیة .
فحینئذٍ نقول : إنّ البعث إلی طبیعة الرقبة معلوم ، وتعلّقه إلی المؤمنة مشکوک فیه ، فتجری البراءة علی البراهین والمقدّمات السابقة .
وعدم تحقّق الطبیعی فی الخارج إلاّ فی ضمن الفردین ـ الرقبة المؤمنة والرقبة الکافرة ـ لایوجب کون المقام من قبیل المتباینین ؛ فإنّ المیزان هو ما تعلّق البعث به ، ومن المعلوم أنّ البعث إلی الطبیعة غیر البعث إلی الطبیعة المقیّدة ، والنسبة بین المتعلّقین هو القلّة والکثرة ؛ وإن کان المصادیق علی غیر هذا النحو باعتبار العوارض .
وممّا ذکرنا یعلم حال المرکّبات التحلیلیة ؛ سواء کانت بسائط خارجیة کالبیاض والسواد المنحلّین إلی اللون المفرّق لنور البصر أو قابضه ، أو کالإنسان المنحلّ عقلاً إلی الحیوان والناطق ؛ فإنّ الجنس والفصل وإن لم یکونا من الأجزاء الخارجیة للمحدود ؛ لأنّهما من أجزاء الحدّ ، وإن کان مأخذهما المادّة والصورة بوجه یعرفه أهله . وقریب منهما بعض الأصناف والأشخاص المنحلّین فی العقل إلی الماهیة والعوارض المصنّفة ، وإلی الماهیة والعوارض المشخّصة .
فإذا دار أمر صبغ ثوب المولی بمطلق اللون ، أو بلون قابض لنور البصر فما قام علیه الحجّة یؤخذ به ، ویترک المشکوک فیه ؛ اعتماداً علی البراءة .
والحاصل : أنّ البراءة تجری فی الجمیع علی وزان واحد ، من غیر فرق بین ما له منشأ انتزاع مغایر وما لیس له کذلک ؛ لأنّ الموضوع ینحلّ عند العقل إلی معلوم ومشکوک فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 322 فالصلاة المشروطة بالطهارة عین ذات الصلاة فی الخارج ، کما أنّ الرقبة المؤمنة عین مطلقها فیه ، والإنسان عین الحیوان وهکذا ، وإنّما الافتراق فی التحلیل العقلی ، وهو فی الجمیع سواء ، فکما تنحلّ الصلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط ، کذا ینحلّ الإنسان إلی الحیوان والناطق . ففی جریان البراءة وقیام الحجّة علی المتیقّن دون المشکوک لا فرق فی جمیع الموارد .
ثمّ إنّ بعض أهل العصر رحمه الله نفی الرجوع إلی البراءة عند التردید بین الجنس والنوع ؛ قائلاً بأنّهما عند التحلیل العقلی وإن کان یرجع إلی الأقلّ والأکثر إلاّ أنّهما فی نظر العرف من التردید بین المتباینین .
فلو دار الأمر بین إطعام الإنسان أو الحیوان فاللازم هو الاحتیاط بإطعام الإنسان ؛ لأنّ نسبة الرفع إلی کلّ منهما علی حدّ سواء ، فیسقطان بالمعارضة ، فلابدّ من العلم بالخروج من العهدة ، ولا یحصل إلاّ بإطعام خصوص الإنسان ؛ لأنّه جمع بین الأمرین ، وإطعامه یستلزم إطعام ذاک ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّ ما ذکره یرجع إلی المناقشة فی المثال ؛ فإنّ الإنسان والحیوان وإن کانا فی نظر العرف من قبیل المتباینین إلاّ أنّ الحیوان والفرس لیسا کذلک ، فلو دار الأمر فی الإطعام بینهما فلا مناص عن البراءة ، کما لو دار الأمر بین مطلق اللون واللون الأبیض ، أو مطلق الرائحة أو رائحة المسک فإنّ الجمیع من قبیل الأقلّ والأکثر .
وثانیاً : لو کان الدوران بین الإنسان والحیوان دوراناً بین المتباینین فطریق الاحتیاط هو الجمع بینهما فی الإطعام ، لا إطعام خصوص الإنسان .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 323 وما ذکره من أنّ إطعامه یستلزم إطعام الحیوان أشبه شیء بالمناقضة فی المقال ؛ فإنّ مغزی هذا التعلیل إلی أنّهما من الأقلّ والأکثر ، کما لا یخفی .
وممّا ذکرنا یظهر : ضعف ما أفاده المحقّق الخراسانی رحمه الله : من أنّ الصلاة ـ مثلاً ـ فی ضمن الصلاة المشروطة ، موجودة بعین وجودها ، وفی ضمن صلاة اُخری فاقدة لشرطها تکون مباینة للمأمور بها .
وجه ضعفه : فإنّ فیه خلطاً واضحاً ؛ فإنّ التحقیق : أنّ الکلّی الطبیعی موجود فی الخارج بنعت الکثرة لا بنعت التباین ؛ فإنّ الطبیعی لمّا لم یکن فی حدّ ذاته واحداً ولا کثیراً فلا محالة یکون مع الواحد واحداً ومع الکثیر کثیراً .
فیکون الطبیعی موجوداً مع کلّ فرد بتمام ذاته ، ویکون متکثّراً بتکثّر الأفراد ، فزید إنسان وعمرو إنسان وبکر إنسان ، لا أنّهم متباینات فی الإنسانیة ، بل متکثّرات فیها ، وإنّما التباین من لحوق عوارض مصنّفة ومشخّصة ، کما لا یخفی .
والتباین فی الخصوصیات لایجعل الماهیة المتّحدة مع کلّ فرد وخصوصیة متباینة مع الاُخری ؛ فإنّ الإنسان بحکم کونه ماهیة بلا شرط شیء غیر مرهون بالوحدة والکثرة ، وهو مع الکثیر کثیر ؛ فهو بتمام حقیقته متّحد مع کلّ خصوصیة . فالإنسان متکثّر غیر متباین فی الکثرة . هذا ، ولتوضیحه مقام آخر ، فلیطلب من أهله ومحلّه .
أضف إلی ذلک : أنّ کون الفردین متباینین غیر مفید أصلاً ؛ لأنّ المیزان إنّما هو ما وقع تحت دائرة الطلب ، وقد عرفت أنّ متعلّقه إنّما هو العناوین والماهیات ، ومن الواضح أنّ مطلق الصلاة أو الصلاة المشروطة بشیء من الطهارة من قبیل الأقلّ والأکثر ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 324