من لا یجوز له الرجوع إلی الغیر
أمّا الجهة الاُولی : فالموضوع لوجوب العمل برأی نفسه وحرمة الرجوع إلی الغیر هو من کان ذا قوّة وملکة یقتدر بها علی استنباط الحکم الشرعی من مدارکها ؛ وإن لم یستنبط فرعاً من الفروع .
فلو زاول الرجل مقدّمات الاجتهاد ومارسها ممارسة أکیدة ؛ بحیث حصل من تلک المزاولة قوّة الاجتهاد ونال المرتبة القدسیة ـ وإن لم یستنبط فرعاً واحداً ولم یرجع إلی مسألة واحدة ؛ بحیث یصدق فی حقّه فعلاً أنّه جاهل بالأحکام ـ یحرم علیه تقلید الغیر .
فیجب علیـه استفراغ الوسـع والبال لتحصیل الحکم الشرعـی ؛ لأنّ الـدلیل علی جـواز رجـوع الجاهـل إلی الغیر لیس إلاّ بناء العقلاء ، ومـا ورد فی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 565 الکتاب والسنّة من التحریص إلی الرجوع لیس إلاّ إرشاداً إلی الفطرة المرتکزة ، وهو دلیل لبّی لا إطلاق له حتّی یتمسّک بإطلاقه .
خصوصاً إذا علم أنّ مؤدّی الأمارات والاُصول عنده قد یکون مخالفاً لرأی من یرید أن یرجع إلیه ؛ بحیث لو استفرغ الوسع لوقف علی خطأه فی الاجتهاد فلا یعذّره العقلاء لو رجع وبان خطأه ، والحال هذه .
وإن شئت قلت : إنّ المتیقّن أو ما هو الظاهر من بناء العقلاء هو الجاهل الذی لایتمکّن فعلاً من تحصیل الأحکام الواقعیة من طرقه المألوفة ، فعلیه أن یرجع إلی المتمکّن . وأمّا القادر علی تحصیلها من طرقها ؛ بحیث لا حاجز بینه وبینها إلاّ مراجعة الأمارات والاُصول المجتمعة فی الکتاب والسنّة فخارج عنه ، بل یجب علیه بذل الجُهد فی تحصیل ما هو ضالّته ، وما یدور علیه وظائفه .
والحاصل : أنّه لو باشر وقام علی تحصیل الأحکام الشرعیة بنفسه فهو مأمون من العتاب والعقاب ـ أصاب أو أخطأ ـ لکونه خبیراً فیما باشره ، والخبیر قد یصیب وقد لایصیب . وأمّا إذا رجع إلی الغیر فلو کان الغیر خاطئاً فی اجتهاده فلا یعذر فی مراجعته ؛ لأنّه من المحتمل جدّاً عدم خطأه فیما لو باشره بنفسه .
فإن قلت : جرت سیرة العقلاء من أصحاب الصنائع وغیرهم علی خلاف ذلک ؛ فربّما یدفعون کلفة التدبّر والتشخیص فی أمر إلی ذمّة الغیر ، مع کون الدافع قادراً علی القیام به بنفسه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 566 قلت : قیاس التکالیف الإلهیة بما جرت السیرة علیه بین الصنّاعین قیاس مع الفارق ؛ فإنّ رجوعهم إلی الغیر لأجل تقدیم بعض الغایات علی بعض ـ کتقدیم الاستراحة والعیش علی التعب والوصب ـ أو من باب الاحتیاط والوقوف علی نظر الغیر ؛ حتّی یطمئنّ قلبه إذا حصل التوافق بین الرأیین ، أو غیر ذلک ممّا لا مساغ لها فی الأحکام الشرعیة .
ومع هـذا کلّه : یمکن تقریب جـواز رجوعـه إلی الغیر بما یلی : إنّ ملاک رجـوع الجاهل إلی الغیر لیس إلاّ إلغاء احتمال الخطأ والخـلاف فی نظـر الغیر ؛ لکونه غالب الموافقـة وکثیر الإصابـة ، کما أنّ ذلک هـو الملاک فی العمل بالأمـارات وأمثالها . وهـذا الملاک بعینه موجـود فی الجاهـل القادر علی الاستنباط ؛ فله أن یـدفع کلفة الاجتهاد عن نفسه .
نعم ، لو استفرغ الوسع ، وصار مؤدّی نظره مخالفاً لما رآه غیره لایجوز له الرجوع إلیه ؛ لکونه مخطئاً فی نظره .
هذا ، ولکنّه لایخلو عن غموض ؛ فإنّ هذا یصحّ لو کان الاختلاف بین الفقهاء طفیفاً لاکثیراً ، والجاهل القادر علی بذل الجهد یعلم من نفسه أنّه لو تصدّی لاستفراغ الوسع لوقف علی خطایا کثیرة فی أنظار من یرید الرجوع إلیه ، ومعه کیف یجوز له الرجوع ؟ ! ومن المحتمل أن یکون للعجز دخالة فی جواز الرجوع .
وأمّا سیرة المتشرّعة فالمتیقّن منها غیر ذلک . هذا وللمقال صلة ، فانتظر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 567