تقریب دلالة المقبولة بوجوه اُخر
ویمکن تقریب دلالتها بوجوه اُخر :
منها : قوله علیه السلام «نظر فی حلالنا وحرامنا» ؛ فإنّ إضافة الحلال والحرام والأحکام إلی أنفسهم ، مع أنّه لیس لهم حلال ولاحرام ولا أحکام ـ إذ المشرّع هو الله سبحانه ، والنبی والأئمّة من بعده محالّ أحکامه وحملتها ـ للإشعار علی أنّ المنصوب لابدّ أن ینظر إلی الفتاوی الصادرة والأخبار المرویة عنهم علیهم السلام ولیس هذا إلاّ شأن الفقیه لا العامّی ؛ إذ هو غیر ناظر إلاّ إلی فتوی الفقیه ، ومن یجب أن یرجع إلیه فی حلال الشرع وحرامه .
ومنها : التعبیر بـ «نظر» بعد ما قال «روی» ؛ فإنّـه دالّ علی أنّ متعلّقـه یحتاج إلی التدقیق والتفکیر ، الـذی هـو الاستنباط فی المقام واستفراغ الوسع فی تمییز الحـقّ عـن الباطـل .
ومنها : التعبیر بـ «عرف» دون علم ؛ فإنّ عرفان الشیء غیر العلم به ؛ فإنّ الأوّل یستعمل فیما إذا اشتبه الشیء بین اُمور یشابهها من جهة أو جهات ، فإذا عرفه بخصوصیاته ومیّزه عمّا یشابهها یقال «عرف ذلک» .
فالمقصود من هذا التعبیر هو أنّ المنصوب للحکومة والقضاء لابدّ أن یعرف الحکم الواقعی عن غیره ، ویمیّز الحکم الصادر لأجل التقیة أو غیرها عن الصادر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 583 لبیان الحکم النفس الأمری ؛ ولو بمعونة ما جعله الإمام مقیاساً لمعرفته ؛ من الرجوع إلی الکتاب والسنّة وفتاوی العامّة . وعرفان الأحکام بهذا المعنی لایقوم به إلاّ الفقیه لا العامّی ، ولا یتحمّلها من لم یبلغ مرتبة الاجتهاد .
ومنها : قوله «وکلاهما اختلفا فی حدیثکم» ؛ فإنّ الظاهر هو الاختلاف فی مفاد الحدیث ومعناه لافی نقله ؛ بأن یروی کلّ واحد غیرما ینقله الآخر . فلو سلّم فالاختلاف الناشئ من هذه الناحیة ربّما یکون من أجل تسلیم إحدی الروایتین وردّ الاُخری ؛ لخلل فی سنده أوجهة صدوره ، ولیس هذا إلاّ شأن الفقیه لا العامّی .
ومنها : قوله علیه السلام فی مقام ترجیح أحد الحکمین علی الآخر : «الحکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما» ، وقوله فیما بعد : «أرأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب والسنّة . . .» إلی آخره ، فإنّ ظاهره مفروغیة کون القاضی والحاکم فقیهاً ، ولا شکّ فی عدم صدق الفقاهة أو الأفقهیة علی العامّی .
ثمّ إنّه کما یستفاد من الروایة جعل منصب القضاء للفقیه ، کذلک یستفاد جعل منصب الحکومة والولایة له أیضاً ؛ إذ أیّ جملة یکون أصرح من قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً» ، والحکومة لغة وعرفاً أعمّ من القضاء المصطلح ، بل القضاء من شؤون الحاکم .
ودعوی الانصراف إلی الحکم بمعنی القضاء وفصل الخصومة عند رفع الرافع غیر مسموعة ؛ إذ لا وجه للانصراف .
فالفقیه کما هو منصوب من ناحیتهم للقضاء وفصل الخصومات منصوب للولایة والحکومة فیما یحتاج إلیه المسلمون فی حیاتهم ومعاشهم ، ویرتبط بإصلاح حالهم وتنظیم سیاساتهم الدینیة . وکون الکبری الکلّیة وارداً فی مورد القضاء لایصیر مخصّصاً کما لایخفی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 584 أضف إلی ذلک : أنّ قول الراوی فی صدر الروایة : «فتحاکما إلی السلطان أو القضاة . . .» إلی آخره یدلّ علی أعمّیة الموارد ؛ فإنّ للسلطان شأناً وللقضاة شأناً آخر غالباً ؛ فإنّ وظیفة الولاة حفظ نظام البلاد من تطرّق الفساد بإعمال السیاسات الدینیة ، وشأن القضاة رفع التداعی والقضاء بالحقّ القراح ، فهو علیه السلام نصب الفقیه بمقتضی عمومیة الصدر للحکومة والقضاوة ، وأعطی له ما کان للسلطان والقضاة .
وکون الراوی بصدد السؤال عن مسألة قضائیة بعده لایوجب اختصاص الصدر بها ، کما لا یخفی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 585