جواز نصب العامّی للقضاء
وأمّا نصب العامّی له بعد ما عرف مسائل القضاء تقلیداً فربّما یقال بجوازه ؛ قائلاً بأنّ للنبی والوصی نصب کلّ واحد من الناس للقضاء ـ مجتهداً کان أو مقلّداً ـ وکلّ ما کان لهم من المناصب فهو ثابت للفقیه إلاّ ما خرج بالدلیل ، فله نصب کلّ من شاء للقضاء بمقتضی أدلّة الولایة .
وربّما یجاب عن الأمر الأوّل : بالشکّ فی جواز نصب النبی والإمام العامّی للقضاء ، کیف وقد دلّت المقبولة علی أنّ هذا المنصب للفقیه العارف بالحلال والحرام لا العامّی ؟
وفیه : أنّ المقبولة دلّت علی أنّ الفقیه منصوب من ناحیتهم للقضاء ، وأمّا اختصاص هذا المنصب للفقیه فی نفس الأمر ، ومحرومیة العامّی عنه کذلک ؛ بحیث کانت الفقاهة من شروطه الشرعیة ، وأنّ ذلک کان بإلزام شرعی إلهی فلا یستفاد منها .
نعم ، یمکن أن یستفاد ما فی الجواب عن صحیحة سلیمان بن خالد قال : «اتّقوا الحکومة ؛ فإنّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء العادل فی المسلمین ، لنبیّ أو وصیّ نبیّ» .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 598 بتقریب : أنّ ظاهر حصرها اختصاص الحکومة من جانب الله للنبی وأوصیائه ؛ بحیث لا حظّ للغیر فیه ولا أهلیة له ، خرج عن ذلک الحصر ، الفقیه بحکم الأدلّة الماضیة ، وبقی الباقون .
بل یمکن أن یقال : بعدم ورود تخصیص علیه أصلاً ، ببیان أنّ الفقیه وصی النبی ؛ لما مرّ من أنّهم الخلفاء والاُمناء علی حلال الله وحرامه ، وأنّهم کأنبیاء بنی إسرائیل ، فیکون الحصر ضابطاً حاصراً . وظاهره اختصاص ذلک المقام من الله ، لنبیه ووصیه ، ولا أهلیة لغیره .
وعلی أیّ حال : فالصحیحة ظاهرة فی اختصاص ذلک المنصب بالأنبیاء وأوصیائهم ، والفقهاء إمّا داخل تحت قوله : «أو وصی نبی» بحکم الروایات ، أو خرجوا عن الحصر بالأدلّة الماضیة ، وبقی الباقون تحت المنع .
علی أنّ الشکّ فی جواز نصب النبی العامّی کافٍ فی عدم جواز نصب الفقیه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 599 إیّاه للقضاء ؛ إذ من الممکن اشتراط الفقاهة مع عدم إطلاق یصحّ الاتّکال علیه .
وربّما یردّ الأمر الثانی بأنّه إذا سلّمنا أنّ للنبی نصب العامّی العارف بالأحکام للقضاء ، لکن لا نسلّم أنّ کلّ ما للنبی من الشأن ثابت للفقیه ؛ فإنّ أقوی الأدلّة مقبولة عمر بن حنظلة ، لکن لا دلالة لها علی عموم الولایة للفقیه ، بل صدرها وذیلها یدلّ علی أنّ للفقیه القضاء بین الناس وبیان الحلال والحرام ، ویجب علی الناس الاتّباع لهم ، وأین ذلک من القول بعموم الولایة وثبوت کلّ ما للنبی من الشأن للفقیه ؟ ! وهکذا غیرها من الأدلّة .
ولو فرض دلالتها یجب حملها علی ذلک ؛ حذراً من التخصیص الأکثر ؛ إذ للنبی والأئمّة من بعده شؤون کثیرة تختصّ بهم ولا نتجاوز غیرهم ، فکیف یمکن التفوّه بعموم المنزلة والولایة ؟
بل لایمکن التمسّک فی الموارد المشکوکة بأدلّة الولایة إلاّ بعد تمسّک جماعة من الأصحاب ؛ حتّی یرتفع غبار الشکّ ، ولم یتمسّک فی المقام إلاّ القلیل من المتأخّرین .
ویمکن أن یجاب عنه : بأنّ جواز نصب العامّی للقضاء لایتوقّف علی عموم الولایة بالمعنی الذی ذکر ؛ بأن نقول بثبوت کلّ ما للنبی من الشؤون للفقیه .
بل یکفی فی ذلک أن یقال : بأنّ المستفاد من المقبولة هو إعطاء منصب الحکومة للفقیه علی وجه الإطلاق ، وجعلهم حکّاماً شرعیاً فی مقابل حکّام الجور ، وأنّ لهم التولّی والتصدّی لکلّ ما کان تولّیه من شؤون الحکّام فی ذلک
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 600 الزمان ، وقد کان نصب القاضی من شؤون الحکّام والسلاطین ، کما کان نصب الاُمراء من شؤونهم فی تلک الأزمنة .
وعلیه : فجعل الفقیه حاکماً مستلزم لجواز نصب القضاة ، بلا احتیاج إلی إثبات أمر آخر ، وهذا لائح لمن سبر حالات الخلفاء والحکّام والقضاة فی الإسلام ، ویکشف ذلک عن أنّه کان علیه السیرة من بدء الإسلام .
وما فسّر به الأدلّة : من أنّه بصدد بیان أنّ وظیفة الفقیه بیان الأحکام ساقط جدّاً ؛ إذ لیس بیان الأحکام منصباً من المناصب حتّی یحتاج إلی الجعل ، کما أنّ القول باختصاصها بالقضاء خالٍ عن الدلیل ؛ فإنّ موردها وإن کان القضاء إلاّ أنّ صدرها وذیلها کاشف عن عموم الجعل ، وأنّه علیه السلام جعل الفقیه حاکماً بقول مطلق ، لا قاضیاً فقط ، وقد أوضحنا سبیل استفادة العموم منها ومن المشهورة ، فراجع .
وأمّا حدیث تخصیص الأکثر : فإن أراد ما یرجع إلی شؤون الحکومة والولایة والسیاسات الإسلامیة والاُمور الحسبیة فالتخصیص لیس بأکثر ، بل قلیل جدّاً ، وإن أراد غیر ما یرجع إلی تلک الشؤون من خصائص النبی وآله علیهم السلام ـ التی جمعها العلاّمة فی کتاب النکاح من «التذکرة» ـ فلم یشملها عموم أدلّة الجعل حتّی یخرج بالتخصیص .
فتلخّص من ذلک : عدم جواز نصب الفقیه العامّی العارف لمنصب القضاء ؛ لما عرفت فی الأمر الأوّل من أنّ ظاهر الصحیحة اختصاص ذلک من قبل الله بالنبی والوصی ، خرج الفقیه تخصیصاً أو تخصّصاً ، وبقی الباقون تحت المنع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 601