الکلام فی مفاد النبوی
فنقول : أمّا النبوی ـ فمع قطع النظر عن صدره الوارد فی الحجّ ـ فیحتمل وجوهاً واحتمالات ، أظهرها : أنّه إذا أمرتکم بشیء ـ سواء کان ذا أجزاء أو ذا أفراد ـ فأتوا منه کلّ ما کان فی استطاعتکم .
وما عن بعض أعاظم العصر : من أنّ إرادة الأعمّ توجب استعمال لفظة «من» فی الأکثر ؛ لعدم الجامع بین الأجزاء والأفراد ، ولحاظ الأجزاء یباین لحاظ الأفراد ، ولا یصحّ استعمال کلمة «من» فی الأعمّ ؛ وإن صحّ استعمال لفظة «شیء» فی الأعمّ من الکلّی والکلّ .
ضعیف ؛ لأنّ کـون کلمة «مـن» تبعیضیة لیس معناه کونها بمعنی البعض ؛ فإنّـه باطل بالضرورة ، بل الحـرف مستعمل فی معناها الحـرفی ، غیر أنّ المدخـول ینطبق علیه أنّـه بعض المرکّب . فلیس معنی قولنا : «أکلت مـن السمکة» أنّـه أکلت بعضها ، بل المراد أنّ السمک ملحوظ أمـراً وحدانیاً ، یکون المأکـول ممّا ینطبق علیه أنّه بعضها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 404 وعلی ذلک : فغایة ما یتوقّف علیه صحّة ذلک الاستعمال ملاحظة الشیء أمراً واحداً یکون المدخول بالحمل الشائع بعضاً منه ، وهو کما یصحّ فی الأجزاء کذلک یصحّ فی الطبیعی الذی له أفراد ؛ فإنّ کلّ فرد من الطبیعی وإن لم یکن بعضاً منه بل عینه وهکذا الفرد الآخر ، إلاّ أنّه مقتضی حکم العقل الدقیق .
وأمّا فی نظر العرف الساذج : فإنّ الطبیعی عندهم بمنزلة مخزن یخرج منه الأفراد ، یکون کلّ فرد بعضاً منه ؛ فیکون منطبقاً علی التبعیض بالحمل الشائع عرفاً .
وإن أبیت : فالعرف ببابک ؛ فإنّ استعمال کلمة «من» التبعیضیة فی الکلّی الذی له أفراد شائع فی العربیة وغیرها .
وأوضح من الجمیع : أنّه لو قال القائل : «إذا أمرتکم بطبیعة الصلاة فأتوا منها کلّ فرد یکون فی استطاعتکم» لکان قولاً صحیحاً ، من دون استلزامه تجوّزاً .
فتلخّص : أنّ کون «من» تبعیضیة لیس مانعاً من حمل الروایة علی الأعمّ ، وأنّ غایة ما یقتضیه التبعیض کون المدخول متقطّعاً ممّا قبلها بنحو من الاقتطاع ، أو یکون ما قبلها کالمخزن لما بعدها ، کالکلّی بالنسبة إلی أفراده ، وهو حاصل فی المقام .
هذا کلّه مع قطع النظر عمّا قبله .
وأمّا مع ملاحظة صدره : فالظاهر منه إرادة الأفراد ، لا الأجزاء ولا الأعمّ منهما ؛ فإنّ الحدیث وارد فی حجّة الوداع ؛ حیث إنّه صلی الله علیه و آله وسلم قام خطیباً ، وقال : «إنّ الله کتب علیکم الحجّ» .
فقام عکاشة ـ ویروی سراقة بن مالک ـ فقال : فی کلّ عامّ یا رسول الله ؟
فأعرض عنه حتّی أعاد مرّتین أو ثلاثاً ؛ فقال : «ویحک وما یؤمنک أن أقول نعم ؟ والله لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو ترکتم لکفرتم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 405 فاترکونی ممّا ترکتکم ، وإنّما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم واختلافهم إلی أنبیائهم . فإذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهیتکم عن شیء فاجتنبوه» .
وجه الظهور : أنّ إعراضه صلی الله علیه و آله وسلم عن الراوی لأجل أنّه إنّما سئل عمّا هو واضح لدی العقل ، وهو أنّه إذا أوجب المولی شیئاً یسقط أمره بالإتیان بأوّل مصداق منه ، ومع هذا لامجال للإصرار .
ویوضحه قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «ویحک ما یؤمنک أن أقول نعم ؟ والله لو قلت نعم لوجب» أی لوجب کلّ سنة ؛ فهو ظاهر فی أنّ حکم العقل ـ أعنی الاکتفاء بأوّل مصداق منه ـ محکّم ما لم یرد منه خلافه ، وأمّا مع الورود فیتّبع مقدار دلالة الدلیل الوارد .
فحینئذٍ قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم» ، بعد ما تقدّمه من السؤال والجواب ظاهر فی إعطاء الضابطة الکلّیة المطابقة لما یحکم به العقل من السقوط بالإتیان بأوّل مصداق من الطبیعة إلی أن یأتی بیان ینقضها .
وعلی هذا : یصیرکلمة «ما» فی قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «ما استطعتم» مصدریة زمانیة ؛ أی إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه زمن استطاعتکم ، لاموصولة حتّی یجب کلّ فرد مستطاع ؛ لأنّه خلاف سیاق الحدیث علی ما عرفت .
وبذلک یتّضح : عدم صحّة إرادة المرکّب ؛ لأنّه إذا وجب علینا المرکّب وجب علینا الإتیان بها بکلّ أجزائه لابعض أجزائه ، فتأمّل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 406