مقتضی الأصل العقلی فی صور الملاقاة
البحث الثالث : قد اختار سیّدنا الاُستاذ فی الدورة السابقة البراءة فی هذه الصور مطلقاً ، ولکنّه عدل فی هذه الدورة إلی تفصیل یوافق مختار المحقّق الخراسانی رحمه الله .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 256 وإلیک بیان ما اختاره فی الدورة السابقة علی نحو الإجمال :
إنّ العلم الإجمالی بنجاسة بعض الأطراف منجّز لها ، فإذا علم بالملاقاة أو بکون نجاسة الملاقی علی فرض کونه نجساً من الملاقی ـ بالفتح ـ فهذا العلم الثانی لایؤثّر شیئاً ؛ لأنّ العلم بنجاسة بعض الأطراف متقدّم رتبةً علی العلم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ؛ سواء کان بحسب الزمان مقارناً له أو متقدّماً علیه أو متأخّراً عنه .
وبالجملة : إنّ العلم الأوّل المتعلّق بنجاسة أحد الطرفین منجّز فی الرتبة السابقة علی تأثیر العلم الإجمالی الثانی ، ومعه لا ینجّز العلم الثانی ؛ لعدم إمکان تنجیز المنجّز ؛ للزوم تحصیل الحاصل .
فإذا علم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، ثمّ علم نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف وأنّ نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ علی فرضها تکون من الملاقی فالعلم الثانی مع کونه متأخّراً زماناً ینجّز أطرافه فی الرتبة السابقة ؛ لأنّ معلومه یکون متقدّماً علی المعلوم الأوّل .
والمناط فی التنجیز هو تقدّم المعلوم زماناً أو رتبةً لا العلم ، کما لو علمنا بوقوع قطرة من الدم فی إحدی الأوانی الثلاثة ، ثمّ علمنا بوقوع قطرة منه قبله فی إحدی الإنائین منها فحینئذٍ یکون العلم الأوّل بلا أثر ، ولا یجب الاجتناب عن الطرف المختصّ به ؛ لأنّ العلم الثانی یؤثّر فی تنجیز معلومه فی الزمان السابق علی العلم الأوّل .
والحاصل : بعد تقدّم تنجّز الملاقی ـ بالفتح ـ علی الملاقی بالرتبة یکون العلم المتعلّق بالملاقی ـ بالکسر ـ والطرف فی جمیع الصور بلا أثر ، ولا معنی للتنجیز فوق التنجیز ، فیکون الملاقی بحکم الشبهة البدویة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 257 هذا ملخّص ما أوضحه فی الدورة السابقة ، وقد لخّصناه بحذف ما تکرّر بیانه فی الأبحاث المتقدّمة . ویظهر ضعفه فی طیّ المباحث الآتیة .
والتحقیق : هو ما اختاره المحقّق الخراسانی من التفصیل ؛ فإنّه أوجب تارة : الاجتناب عن الطرف والملاقی ـ بالفتح ـ دون الملاقی ، واُخری : عن الطرف والملاقی والملاقی جمیعاً ، وثالثة : عن الطرف والملاقی ـ بالکسر ـ دون الملاقی ، بالفتح . فنقول توضیحاً وتحقیقاً لما أفاده قدس سره :
أمّا الصورة الاُولی : فهی ما إذا کان العلم بالملاقاة متأخّراً عن العلم بنجاسة أحد الأطراف ، وعلّله هو قدس سره بأنّه إذا اجتنب عن الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف فقد اجتنب عن النجس فی البین ، ولو لم یجتنب عمّا یلاقیه ؛ فإنّه علی تقدیر نجاسته فرد آخر من النجس قد شکّ فی وجوده .
وتوضیحه ـ وإن کان فیما مرّ کفایة بالنسبة إلی هذه الصورة ـ أن یقال : إنّ الکشف والتنجیز من الاُمور التی لا یقبل التعدّد والاثنینیة ، فلا یعقل أن ینکشف الشیء الواحد لدی العالم مرّتین ما لم ینفصل بینهما ذهول أو نسیان .
ومثله التنجیز ؛ فإنّ معناه تمامیة الحجّة وانقطاع العذر علی العبد ، وهو لا یقبل التکرّر ، فإذا تمّ الحجّة بالنسبة إلی الطرف فی العلم المتقدّم أو حصل الانکشاف فلا معنی لأن یتمّ الحجّة بالنسبة إلیه أیضاً فی العلم الثانی الذی تعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، کما لا معنی لتعدّد الانکشاف .
وإن شئت قلت : إنّ من شرائط تنجیز العلم الإجمالی کونه متعلّقاً بالتکلیف
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 258 الفعلی فی أیّ طرف اتّفق ، وموجباً للإلزام علی أیّ تقدیر ، وهو مفقود فی المقام ؛ فإنّ القول بأنّه یجب الاجتناب إمّا عن الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف قول صوری ؛ فإنّ الطرف یجب الاجتناب عنه علی أیّ تقدیر ؛ للعلم السابق ؛ سواء وجب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ أو لا .
ولأجل ذلک : لو تعلّق العلم الإجمالی باُمور قد سبق التکلیف إلی بعضها معیّناً لم یحدث شیئاً ولم یوجب تنجّزاً ؛ لأنّه تعلّق بأمر وجب الاجتناب عنه سابقاً بلا تردید ، والباقی مشکوک من رأس .
والحاصل : أنّا إذا سلّمنا أنّ هاهنا علماً ثانیاً دائراً بین الطرف والملاقی ، لکنّه تعلّق بمعلوم مردّد بین ما هو محکوم بالاجتناب قبل حدوث هذا العلم وما لیس کذلک ، ومعه کیف یحدث العلم الثانی تنجیزاً علی کلّ تقدیر ، أو کشفاً علی کلّ تقدیر ؟ مع أنّ الطرف کان منجّزاً ومنکشفاً من قبلُ ببرکة العلم الأوّل ، والمنجّز لا یتنجّز ، والمنکشف لا ینکشف .
هذا ، وحکم هذه الصورة واضحة جدّاً قد اتّفقت کلمتنا فیها فی کلتا الدورتین ، وإنّما البحث فی غیرها .
وأمّا الصورة الثانیة ـ أعنی ما یجب فیه الاجتناب عن الجمیع ـ فهی فیما إذا حصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف بعد العلم بالملاقاة ، مع کون الجمیع مورداً للابتلاء .
فإنّ السرّ فی وجوب الاجتناب عن الجمیع : أنّ العلم بالملاقاة وإن کان متقدّمـاً إلاّ أنّه لا یحـدث تکلیفاً ؛ فإنّ الملاقاة الخارجی لیس موضـوعاً للحکم ما لم یعلم نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ وما هو الموجب للتکلیف إنّما هو العلم بنجاسـة الملاقی أو الطرف ، وهـو قـد تعلّق بالجمیع فی عرض واحـد ؛ لأنّ العلم بالملاقاة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 259 المتقدّم قد جعل الملاقی والملاقی عدلاً واحداً .
فإذا تعلّق العلم بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ففی الحقیقة تعلّق ببرکة العلم بالملاقاة من قبل بنجاستهما أو الطرف ، وسیأتی الکلام عن قریب فی حال التقدّم الرتبی ، فانتظر .
وإلی ذلک یشیر قدس سره بأنّه یتنجّز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین ، وهو الواحد أو الاثنین .
وأمّا الصورة الثالثة ؛ أعنی ما یجب فیه الاجتناب عن الطرف والملاقی ـ بالکسر ـ دون الملاقی فقد ذکر رحمه الله لها موردین :
الأوّل : ما إذا تأخّر العلم بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف عن العلم بالملاقاة ، وعن العلم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، کما إذا علم أوّلاً بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، من دون التفات إلی سبب نجاسة الملاقی ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة ، وحدث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ، والعلم بأنّه لیس لنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ علی تقدیر أن یکون هو النجس الذی تعلّق العلم به أوّلاً سبب إلاّ جهة ملاقاته ؛ لأنّ المفروض أنّه لیس إلاّ نجاسة واحدة فی البین .
والسرّ فی ذلک : هو ما مرّ من أنّ شرط تنجیز العلم الإجمالی أن یکون متعلّقاً بالتکلیف الفعلی علی أیّ تقدیر ، منجّزاً کذلک ، وقد عرفت أنّه لو سبق التکلیف إلی بعض الأطراف قبل تعلّق العلم الثانی لما یؤثّر المتأخّر أصلاً ؛ لتردّد متعلّقه بین ما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 260 کان واجب الاجتناب لولا هذا العلم ، وما لیس کذلک ، فینحلّ العلم الثانی إلی قطعی الاجتناب ومحتمله .
ولا یصحّ أن یقال : إنّ هذا واجب أو ذاک ، بل أحدهما واجب الاجتناب قطعاً ـ وهو الذی سبق إلیه التکلیف ـ والآخر مشکوک الوجوب .
وقس علیه المقام ؛ فإنّ العلم الأوّل قد نجّز حکم کلّ واحد من الملاقی ـ بالکسر ـ والطرف ، والعلم الثانی قد تعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف ، والمفروض أنّ الطرف کان فی ظرف حدوث العلم الأوّل واجب الاجتناب ، وقد تمّ حجّة المولی فیه إلی العبد ، ومعه لا یحدث العلم الثانی تکلیفاً علی أیّ تقدیر .
وبالجملة : لیس البحث فی الملاقی ـ بالکسر ـ حتّی یقال : إنّ العدل فی العلم الثانی هو الملاقی ـ بالفتح ـ بل البحث فی الطرف الذی هو عدل فی کلا العلمین ، وقد ثبت تنجیزه قبل حدوث العلم الثانی ، فلا معنی للتنجیز بعده ، فینحلّ علم الثانی إلی قطعی الاجتناب وهو الطرف ومشکوکه وهو الملاقی ، بالفتح .
وإن شئت قلت : إنّ شرطیة منجّزیـة العلم الإجمالی هـو أن یکون کاشفاً فعلیاً ومنجّزاً فعلیاً علی جمیع التقادیر ، ومع العلم الأوّل بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف یکون العلم کاشفاً فعلیاً عن التکلیف بینهما ومنجّزاً فعلیاً علی جمیع التقادیر .
فإذا حصل العلم بأنّ نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ علی فرض کونه نجساً فمن جانب الملاقی یحدث علم إجمالی ، لکنّه لا یمکن أن یتّصف بالکاشفیة الفعلیة ، ولا بالمنجّزیة الفعلیة علی جمیع التقادیر ؛ فإنّه علی تقدیر کون النجس هو الطرف یکون فعلیاً بالعلم الأوّل ومنجّزاً فعلیاً به ، ولا یعقل تعلّق کشف فوق الکشف ، ولا تنجیز فوق التنجیز .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 261 فإن قلت : العلم الثانی یوجب بطلان العلم الأوّل وفساد زعم التنجیز ؛ لأنّ التنجیز فرع مطابقة العلم لنفس الأمر ، وقد کشف خلافه ؛ لأنّه بعد حصول الثانی من العلمین الکاشف عن أنّ النجس إمّا هو الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف نستکشف بطلان الأوّل ، الذی تعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، وعلمنا أنّ الذی یلیق أن یقع عدلاً للطرف إنّما هو الملاقی ـ بالفتح ـ لا الملاقی .
وإن شئت قلت : إنّ الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ فرع ثبوت وجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالفتح ـ والسرّ فی ذلک : أنّ ما یجب الاجتناب عنه هو ملاقی النجس القطعی ، فیجب الاجتناب عنه ؛ وإن صار الملاقی غیر واجب الاجتناب ؛ لأجل الاضطرار إلیه ، أو لخروجه عن محلّ الابتلاء ، أو لغیر ذلک .
وأمّا المقام فلیس ملاقیاً للنجس ، بل ملاقٍ لشیء لم یحرز نجاسته ، ولم یثبت وجوب الاجتناب عنه عند حصول العلم الأوّل ، کما هو المفروض .
وبالجملة : بعدما حدث العلم الثانی کشفنا عن أنّ العلم الأوّل الذی تعلّق بوجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف کان وهناً محضاً ، ولم یکن ملاک وجوب الاجتناب موجوداً فیه .
فیبطل ما یقال : إنّ الطرف کان واجب الاجتناب من أوّل الأمر ، ولم یحدث العلم الثانی تکلیفاً آخر بالنسبة إلیه ، ویصیر الملاقی ـ بالفتح ـ مشکوکاً بدویاً .
قلت : إنّ العلم الثانی لم یکشف إلاّ عن سبب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ لا عن بطلان العلم الأوّل . والشاهد علیه : أنّـه بعد حصول العلم الثانی أنّ لنا أن نقول : الطرف واجب الاجتناب أو الملاقی ـ بالکسر ـ لکونـه ملاقیاً للنجس واقعاً .
غایة الأمر : کان وجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ مجهولاً سببه ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 262 وکان المکلّف معتقداً أنّ علّة نجاسته علی فرضها هو وقوع النجس فیه بلا واسطة ، ثمّ بان بأنّ سببها هو الملاقاة لما هو نجس علی فرض نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ وهذا مثل ما إذا وقفنا علی وجوب أحد الشیئین ، ثمّ وقفنا علی ضعف الطریق مع العثور علی طریق صحیح . فالتغایر فی السبب لا یوجب التغایر فی المسبّب .
وما ربّما یقال بانحلال العلم الأوّل بالثانی ؛ قائلاً بأنّه أیّ فرق بین المقام وما إذا علم بوقوع قطرة من الدم فی واحد من الإنائین ، ثمّ علم بعد ذلک بوقوع قطرة سابقاً : إمّا فی هذا الإناء المعیّن من الإنائین أو فی إناء ثالث ؟ فلا ینبغی التأمّل فی أنّ الثانی من العلمین یوجب انحلال الأوّل منهما ؛ لسبق معلومه علیه ، وأنّ الأوّل منهما وإن کان متقدّماً حسب الوجود إلاّ أنّ معلوم الثانی متقدّم .
وإن شئت قلت : إنّ العلم الأوّل لم یحدث تکلیفاً بالنسبة إلی الإناء الذی وقع عدلاً للإناء الثالث فی العلم الثانی ؛ لأنّ العلم الثانی کشف عن کونه واجب الاجتناب من قبل فی نفس الأمر ؛ وإن کان مجهولاً لنا ، وقد علمت ما هو الشرط فی تنجیز العلم الإجمالی .
ففیه ـ مع أنّه یرجع إلی الإشکال المتقدّم مآلاً ؛ وإن کان یفترق عنه تقریراً وتمثیلاً ـ أنّ الفرق بین المقامین واضح ؛ لأنّه إذا علم بعد العلم بوقوع قطرة فی إحدی الإنائین بأنّه وقعت قطرة قبل تلک القطرة المعلومة فی واحد معیّن من الإنائین أو الثالث یکشف ذلک عن أنّ علمه بالتکلیف علی أیّ تقدیر کان جهلاً مرکّباً ؛ لأنّ القطرة الثانیة المعلومة أوّلاً إذا کانت واقعة فیما وقعت فیه القطرة قبلاً لم یحدث تکلیفاً . فالعلم الثانی یکشف عن بطلان العلم الأوّل ، وینحلّ العلم الأوّل .
وأمّا المقام فلیس کذلک ؛ فإنّ العلم الأوّل باقٍ علی ما هو علیه ، ومانع عن وقوع کشف وتنجیز بالنسبة إلی الطرف بالعلم الثانی ، فالعلم الأوّل المتعلّق بنجاسة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 263 الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف باقٍ علی حاله ، ولا ینحلّ بحدوث العلم الثانی المتعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف .
وما أورده بعض أعاظم العصر قدس سره ردّاً علی هذا التفصیل ، بما حاصله : أنّ هذا التفصیل مبنی علی کون حدوث العلم الإجمالی بما أنّه وصف فی النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف ؛ وإن تبدّلت صورته ؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ یکون المدار علی حال حدوث العلم . ومن المعلوم أنّه قد یکون متعلّق العلم الإجمالی حال حدوثه هو نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، وقد یکون هو نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ، وقد یکون هو نجاستهما معاً أو الطرف .
ولکن الإنصاف : فساد المبنی ؛ لأنّ المدار فی تأثّر العلـم إنّما هو علی المعلوم والمنکشف لا علی العلم والکاشف ، وفی جمیع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتنـاب عن الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف سابقة علی وجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ وإن تقدّم زمان العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف علی العلـم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ؛ لأنّ التکلیف فی الملاقی إنّما جاء من قِبَل التکلیف بالملاقی ، فلا أثر لتقدّم زمان العلم وتأخّره ، بعد ما کان المعلوم فی أحد العلمین سابقاً رتبة أو زماناً علی المعلوم بالآخر ، انتهی ما یتعلّق بالمقام ، ویأتی باقی کلامه عند البحث عن المورد الثانی للصورة الثالثة .
ففیه : أنّ التنجّز من آثار العلم المتقدّم وجوداً فی الزمان علی الآخر ، لا من آثار المتقدّم رتبة ؛ وإن تأخّر زمان وجوده . فالعلم بنجاسة الطرف أو الملاقی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 264 ـ بالفتح ـ وإن کان متقدّماً رتبة ، إلاّ أنّه حادث ومتأخّر وجوداً عن العلم الأوّل ، وما هو الملاک فی باب الاحتجاج وقطع الأعذار إنّما هو وجود الحجّة علی التکلیف المتقدّم بوجوده علی الآخر ، والرتب العقلیة لیست مناطاً فی المقام .
وإن شئت قلت : إنّه لا تأثیر لتقدّم الرتبة عقلاً فی تقدّم التنجیز ، کما اشتهر فی الألسن ؛ ضرورة أنّ التنجیز إنّما هو أثر العلم فی الوجود الخارجی ، وتقدّم السبب علی المسبّب لیس تقدّماً خارجیاً ، بل هو معنیً یدرکه العقل وینتزع من نشوء أحدهما عن الآخر .
فالعلم الإجمالی المتعلّق بالملاقی ـ بالفتح ـ والطرف وإن کان مقدّماً علی العلم الإجمالی بالملاقی ـ بالکسر ـ والطرف فی الرتبة العقلیة ، لکنّه لا یوجب تقدّمه فی التنجیز حتّی یصیر مانعاً من تنجّز المتأخّر رتبة .
ولأجل ذلک یجب الاجتناب عن الجمیع فیما إذا تعلّق العلم بالأطراف بعد العلم بالملاقاة وبعد العلم بأنّه لیس للملاقی نجاسة غیر ما اکتسب من الملاقی ـ بالفتح ـ لکن حصل العلم الإجمالی بنجاسة الطرف والملاقی ـ بالفتح ـ فی زمان حدوث العلم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ والطرف ؛ فإنّ العلم حینئذٍ یکون منجّزاً ویجب الاجتناب عن الأطراف عامّة ، نظیر الصورة الثانیة التی تقدّم وجوب الاجتناب فیها عن الأطراف عامّة .
وسیوافیک فی بحث السببی والمسبّبی وفی هذا البحث عند بیان الأصل الشرعی فی الملاقی : أنّ القول بالرتب العقلیة فی الأحکام العرفیة والشرعیة لا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 265 یرجع إلی شیء ؛ وإن جعل الشیخ الأعظم ذلک التقدّم علّة لتقدّم السببی علی المسبّبی ، وتبعه شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ فانتظر .
المورد الثانی للصورة الثالثة ؛ أعنی ما یجب فیه الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ والطرف دون الملاقی : ما إذا علم بالملاقاة ، ثمّ حدث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ، ولکن کان الملاقی حال حدوث العلم داخلاً فی مورد الابتلاء ، والملاقی ـ بالفتح ـ خارجاً عنه ثمّ عاد إلی محلّ الابتلاء .
وأورد علیه بعض الأعاظم رحمه الله : بأنّه لا أثر لخروج الملاقی ـ بالفتح ـ عن محلّ الابتلاء فی ظرف حدوث العلم ، مع عوده إلی محلّ الابتلاء بعد العلم .
نعم ، لو فرض أنّ الملاقی ـ بالفتح ـ کان فی ظرف حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ولم یعد بعد ذلک إلی محلّه ـ ولو بالأصل ـ فالعلم الإجمالی بنجاسته أو الطرف ممّا لا أثر له ، ویبقی الملاقی ـ بالکسر ـ طرفاً للعلم الإجمالی ، فیجب الاجتناب عنه وعن الطرف ، انتهی .
التحقیق : ما عرفت من عدم الاعتبار بالخروج عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ الأحکام الشرعیة مجعولة علی الطریق الکلّی الذی عبّرنا عنه بأنّه أحکام قانونیة أو خطابات قانونیة .
ولو سلّم : فهو فیما إذا لم یکن للخارج أثر فعلی داخل فی محلّ الابتلاء ، وأمّا إذا کان له أثر فعلی فلا نسلّم قبح الخطاب ، ولا قبح الحکم الوضعی ؛ فإنّ جعل النجاسة علی الحیوان الخارج عن محلّ الابتلاء ببرکة أصالة عدم التذکیة إذا کان
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 266 بعض أجزائه داخلاً فی محلّ الابتلاء ممّا لا قبح فیه إذا قلنا بأنّ التذکیة ترد علی الحیوان فقط ، والأجزاء تصیر ذات تذکیة بواسطة عروضها علی الحیوان .
ومثله المقام ؛ فإنّ جعل النجاسة للإناء الخارج عن محلّ الابتلاء مع کون ملاقیه داخـلاً فیه لیس بقبیح ؛ لأنّ أثر نجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ الخـارج عـن محلّ الابتلاء إنّما هو نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ الـذی داخـل فیه . وعلیه فیجری أصالة الطهارة فی الملاقی ـ بالفتح ـ بلحاظ أثره الذی داخل فی محلّ الابتلاء ؛ أی نجاسـة ملاقیه .
فظهر : أنّ عود الملاقی ـ بالفتح ـ إلی محلّ الابتلاء وعدم عوده سیّان ، فما فصّله بعض الأعاظم من تسلیم ما ذکره المحقّق الخراسانی فیما لم یعد الملاقی ـ بالفتح ـ إلی محلّ الابتلاء دون ما عاد لا یرجع إلی محصّل ؛ لما عرفت من أنّ خروج الملاقی ـ بالفتح ـ کلا خروجه ؛ لوجود أثره .
هذا کلّه فی مفاد الأصل العقلی فی المقام .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 267