المطلب الثالث فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأسباب والمحصّلات
وهی تنقسم إلی عقلیة وعادیة وشرعیة :
أمّا الأوّلتین : فمرکز البحث فیهما ما إذا تعلّق الأمر بمفهوم مبیّن ، وکان له سبب عقلی أو عادی ، ودار أمر السبب بین الأقلّ والأکثر ، کما لو أمر بالقتل وتردّد سببه بین ضربة وضربتین ، وأمر بتنظیف البیت ودار أمره بین کنسه ورشّه أو کنسه فقط ، ومثله ما لو شکّ فی اشتراط السبب بکیفیة خاصّة من تقدیم أجزاء علی اُخری ، هذا هو محطّ البحث . فلا إشکال فی عدم جریان البراءة ؛ لأنّ المأمور به مبیّن وغیر دائـر بین الأقلّ والأکثر ، وما هو دائر بینهما فهو غیر مأمور به ، والشکّ بعد فی حصول المأمـور به وسقوطه ، وقـد قامت الحجّة علی الشیء المبیّن ، فلابدّ مـن العلم بالخـروج عن عهدته .
ویظهر من بعض محقّقی العصر : التفصیل بین کون المسبّب ذا مراتب ومن البسائط التدریجیة فتجری البراءة ، وبین غیره ؛ حیث قال :
لو کان العنوان البسیط متدرّج الحصول من قِبل علّته ؛ بأن یکون کلّ جزء من أجزاء علّته مؤثّراً فی تحقّق مرتبة منه ، إلی أن یتمّ المرکّب فیتحقّق تلک المرتبة الخاصّة التی هی منشأ للآثار ، نظیر مرتبة خاصّة من النور الحاصلة من عدّة شموع . ومنه باب الطهارة ؛ لقوله علیه السلام : «فما جری علیه الماء فقد طهر» ، وقوله علیه السلام :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 325 «وکلّ شیء أمسسته الماء فقد انقیته» ، فلا قصور عن جریان البراءة عند دوران الأمر فی المحقّق ـ بالکسر ـ بین الأقلّ والأکثر ؛ فإنّ مرجع الشکّ ـ بعد فرض تسلیم سعة الأمر البسیط فی ازدیاد أجزاء محقّقه ـ إلی الشکّ فی سعة ذلک الأمر البسیط وضیقه ، فینتهی الأمر إلی الأقلّ والأکثر فی نفس الأمر البسیط ، فتجری البراءة ، وهذا بخلاف ما لو کان دفعی الحصول فلا محیص عن الاحتیاط .
قلت : ما ذکره غیر صحیح علی فرض ، وخارج عن محطّ البحث علی فرض آخر ؛ لأنّه لو کان الشکّ فی أنّ الواجب هل هو غَسل جمیع الأجزاء أو یکفی الغالب ولا یضرّ النادر فللقول بجریان البراءة مجال ، ولکنّه خارج عن البحث ؛ لأنّ مآل البحث حینئذٍ إلی الأقلّ والأکثر فی نفس المأمور به .
وأمّا إذا قلنا بأنّ الواجب هو تحصیل الطهور ، ولکن وقع الشکّ فی أنّ السبب هل هو نفس الغسل أو هو مع اشتراط تقدیم بعض الأجزاء ـ کالرأس علی غیره ـ فلا محیص عن الاحتیاط ؛ وإن کان المسبّب تدریجی الحصول .
فلو علمنا باشتراط صلاة الظهر بالطهارة ، وشککنا فی حصوله بالغسلتین والمسحتین مطلقاً أو مع شرط وکیفیة خاصّة ، ودار الأمر فی المحصّل ـ بالکسر ـ بین الأقلّ والأکثر فلا إشکال فی عدم جریان البراءة ، من غیر فرق بین کون العنوان البسیط الذی هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول ، أو کونه دفعی الحصول .
ولو علمنا بوجوب الطهور ، وشککنا فی أنّ الحقیقة المتدرّجة الوجود هل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 326 یحصل بمطلق الغسل أو بشرط آخر ـ کقصد الوجه مثلاً ـ أو غیره لزم الاحتیاط .
وبالجملة : فهذا التفصیل لا طائل تحته .
وإلیک تفصیلاً آخر ذکره ذلک المحقّق فی کلامه ؛ وهو التفصیل بین کون العلم مقتضیاً قابلاً لإجراء الاُصول فی أطراف العلم أو علّة تامّة . فعلی القول بجریان الاُصول فی أطراف العلم ما لم یمنع عنه مانع فیمکن أن یقال : إنّ الأمر البسیط وإن کان له وجود واحد إلاّ أنّ له أعداماً علی نحو العموم البدلی بانعدام کلّ واحد من أجزاء سببه .
وعلیه : فبما أنّ الأمر بالشیء مقتضٍ عن النهی عن ضدّه العامّ ـ أعنی ترک المأمور به وإعدامه بإعدام سببه ـ فحینئذٍ ترک المأمور به عن قِبل ترک الأقلّ ممّا یعلم تفصیلاً حرمته ، وعلم استحقاق العقوبة علیه .
وأمّا ترکه الناشئ من ترک المشکوک جزئیته فلم یعلم حرمته ؛ لعدم العلم بإفضاء ترکه إلی ترکه . هذا ، وقد أجاب عنه بما هو مذکور فی کلامه .
أقول : یرد علیه أوّلاً : أنّه لو کان المأمور به بالذات مردّداً بین عنوانین ـ کالظهر والجمعة ـ فعلی القول باقتضائیة العلم یمکن للشارع أن یکتفی بأحدهما فی مقام الامتثال .
وأمّا إذا کان المأمور به معلوم العنوان مبیّن المفهوم ، وقد تعلّق الأمر به ، وقامت الحجّة علی لزوم إتیانه فالمأمور به معلوم تفصیلاً . ولا یمکن الترخیص فی العلم التفصیلی ؛ وإن کان محصّله مردّداً بین الأقلّ والأکثر .
والحاصل : لیس المقام من قبیل العلم الإجمالی فی المأمور به حتّی یأتی فیه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 327 ما ذکر . والعلم الإجمالی فی المحصّل ـ بالکسر ـ عین الشکّ فی البراءة ، لا الشکّ فی مقدار الاشتغال .
وثانیاً : أنّ هنا علماً واحداً تفصیلیاً بحرمة ترک المأمور به المعلوم ، من غیر تردید ، ومن أیّ طریق حصل ترک المأمور به ؛ أی سواء حصل بترک الأقلّ أو الأکثر .
فحینئذٍ : فالقول بأنّ حرمة ترکه من قِبل ترک الأقلّ ، وأمّا من قبل ترک الأکثر فمشکوک أشبه شیء بالشعر ؛ فإنّ حرمة ترک المأمور به معلوم مطلقاً ؛ من أیّ سبب حصل ؛ سواء حصل بترک الأقلّ أو الأکثر . ومعه کیف یقال : من أنّ حرمة ترکه من ناحیة الأکثر مشکوک ؟ فإنّ العلم بحرمة ترکه مطلقاً یوجب سدّ باب جمیع الأعدام المتیقّنة أو المحتملة .
وثالثاً : أنّ هنا حجّة واحدة ؛ وهو الأمر الصادر من المولی القائم علی وجوب المأمور به ، وأمّا النهی عن ترک المأمور به ـ فعلی فرض صحّة هذا النهی ، وعدم کونه عبثاً ولغواً ـ فهو حجّة عقلیة ، ینتقل إلیه العقل بعد التفطّن بالملازمة بین الأمر بالشیء والنهی عن ترکه ، ولکن الحجّة العقلیة تابعة فی السعة والضیق للأمر المولوی ، ولایمکن أن یکون أوسع منه .
فلو کان لازم أمر المولی هو سدّ جمیع أبواب الأعدام ـ من قطعیاتها ومحتملاتها ـ فلا یمکن أن یکون مفاد الحجّة العقلیة مجوّز إعدامه من جانب واحد ؛ وهو ترک الأکثر .
ورابعاً : لو سلّمنا انحلال النهی عن ترک المأمور به إلی نهی مقطوع ومشکوک ، فلا یوجب ذلک انحلال الدلیل المولوی القائم علی وجوب الأمر المبیّن إلی ذلک ؛ لأنّ إجراء البراءة فی النواهی المتعدّدة المنحلّة لایوجب جریانها فی الأمر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 328 الواحد المتعلّق بالمفهوم الواحد المبیّن ؛ فإنّ غایة القول بالانحلال لا یزید عن إنکار اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ترک العامّ ، ومعه لامحیص عن الخروج عن الاشتغال القطعی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 329