الإشکالات الثمانیة علی جریان البراءة العقلیة عن الأکثر ودفعها
هذا التقریب الذی أبدعناه یندفع به أکثر الإشکالات ، ومع ذلک لا بأس بالتعرّض لبعض المعضلات التی أوردها الأعاظم من الأصحاب :
فنقول : إنّ هنا إشکالات :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 297
الإشکال الأوّل :
وقد حکی عن المحقّق صاحب «الحاشیة» ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالی بوجوب الأقلّ والأکثر حجّة علی التکلیف ومنجّز له ، ولابدّ من الاحتیاط بالإتیان بالجزء المشکوک فیه . ولا ینحلّ هذا العلم الإجمالی بالعلم بوجوب الأقلّ والشکّ فی الأکثر ؛ لتردّد وجوبه بین المتباینین ، فإنّه لا إشکال فی مباینة الماهیة بشرط شیء للماهیة لا بشرط ؛ لکونهما قسیمین .
فلو کان متعلّق التکلیف هو الأقلّ فالتکلیف به إنّما یکون لا بشرط عن الزیادة ، ولو کان الأکثر فالتکلیف بالأقلّ یکون بشرط انضمامه مع الزیادة .
فوجوب الأقلّ یکون مردّداً بین المتباینین باعتبار اختلاف سنخی الوجوب الملحوظ لا بشرط شیء أو بشرطه ، کما أنّ امتثاله یکون مختلفاً أیضاً حسب اختلاف الوجوب ؛ فإنّ امتثال الأقلّ إنّما یکون بانضمام الزائد إلیه إذا کان التکلیف ملحوظاً بشرط شیء ، بخلاف ما إذا کان ملحوظاً لا بشرط ، فیرجع الشکّ فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین إلی الشکّ بین المتباینین تکلیفاً وامتثالاً ، انتهی کلامه .
ویرد علیه أوّلاً : أنّ الموصوف باللابشرطیة وقسیمها إنّما هو متعلّق التکلیف لا نفس التکلیف ، والتکلیف علی سنخ واحد ، والاختلاف إنّما هو فی المتعلّق . وما أفاده لعلّه سوء تعبیر ، والمراد ما ذکرنا .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 298 وثانیاً : أنّ متعلّق التکلیف أیضاً لیس أمره دائراً بین الماهیة لا بشرط شیء وبشرطه ؛ إذ لیس التکلیف متعلّقاً بالأقلّ ، والمتعلّق مردّداً بین کونه لا بشرط عن الزیادة أو بشرط الزیادة .
فإنّ لازم ذلک تسلیم أنّ مصبّ الأمر مطلقاً هو الأقلّ والشکّ فی اشتراطه بالزیادة وعدمها . مع أنّه غیر صحیح ؛ لأنّ الأجزاء کلّها فی رتبة واحدة ، ولیس بعضها جزءً وبعضها شرطاً لبعض ، بل الأمر دائر بین تعلّق التکلیف بالأقلّ ـ أی المرکّب المنحلّ إلیه ـ أو الأکثر ـ أی المرکّب المنحلّ إلیه ـ ولا تکون الأجزاء متعلّقة للتکلیف بما أنّها أجزاء ، کما تقدّم فی کیفیة تعلّق الأوامر بالمرکّبات الاعتباریة .
وثالثاً : لا نسلّم أنّ الأقلّ اللابشرط أو التکلیف اللابشرط علی تعبیره رحمه الله یباین الأقلّ بشرط شیء ؛ تباین القسم مع القسم ؛ لأنّ معنی کون الأقلّ لا بشرط : أنّ الملحوظ نفس الأقلّ ، من غیر لحاظ انضمام شیء معه ، لا کون عدم لحاظ شیء معه ملحوظاً حتّی یصیر متبایناً مع الملحوظ بشرط شیء ، فیکون الأقلّ متیقّناً والزیادة مشکوکاً فیها ، فینحلّ العلم إلی علم تفصیلی وشکّ بدوی فی وجوب الزیادة .
هذا ، مع أنّا نمنع کون الأجزاء متعلّقة للحکم ، بل المتعلّق إنّما هو العنوان ؛ وهو المرکّب الواحد الذی تعلّق به بعث واحد ، وهو یصیر حجّة علی الأجزاء المعلوم انحلالها إلیها ، ولا یصیر حجّة علی الزیادة المشکوک فیها ، کما تقدّم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 299 ورابعاً : أنّ لازم ما أفاده هو الاحتیاط علی طریق الاحتیاط فی المتباینین ؛ أی الإتیان بالأقلّ منفصلاً عن الزیادة تارة ، ومعها اُخری ؛ لأنّ المتباینین غیر ممکن الاجتماع ، مع أنّ القائل لا یلتزم به .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر رحمه الله أجاب عن الإشکال بأنّ الماهیة لا بشرط والماهیة بشرط شیء لیستا من المتباینین اللذین لا جامع بینهما ؛ فإنّ التقابل بینهما لیس تقابل التضادّ ، بل تقابل العدم والملکة ؛ فإنّ الماهیة لا بشرط لیس معناها لحاظ عدم انضمام شیء معها ؛ بحیث یؤخذ العدم قیداً للماهیة ، وإلاّ رجعت إلی الماهیة بشرط لا ، ویلزم تداخل أقسامها .
بل الماهیة لا بشرط معناها عدم لحاظ شیء معها . ومن هنا قلنا : إنّ الإطلاق لیس أمراً وجودیاً ، بل هو عبارة عن عدم ذکر القید .
فالماهیة لابشرط لیست مباینة بالهویة والحقیقة مع الماهیة بشرط شیء ؛ بحیث لا یوجد بینهما جامع ، بل یجمعهما نفس الماهیة . والتقابل بینهما بمجرّد الاعتبار واللحاظ .
ففی ما نحن فیه یکون الأقلّ متیقّن الاعتبار علی کلّ حال ؛ سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شیء ؛ فإنّ التغایر الاعتباری لایوجب خروج الأقلّ من کونه متیقّن الاعتبار ، انتهی کلامه .
وفی کلامه إشکالات نشیر إلیها :
منها : أنّه قدس سره جعل الماهیة مقسماً وجامعاً ، وفرض اللا بشرط المطلق والبشرط شیء من أقسامها ، وفسّر الإطلاق فی القسم بما لم یعتبر فیه قید .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 300 فحینئذٍ نقول : إن أراد من قوله فی تفسیر الإطلاق : ما لم یعتبر مع الماهیة قید ، عدم الاعتبار بالسلب البسیط ؛ بحیث یکون اللابشرط القسمی هو ذات الماهیة مع عدم وجود قید معها فی نفس الأمر ، لا بلحاظ اللحاظ فهو غیر تامّ ؛ لأنّ هذا هو عین المقسم ، فیرجع القسم حینئذٍ إلی المقسم ، ویتداخل الأقسام ، مع أنّه جعل اللابشرط من أقسام نفس الماهیة ، وحکم بجامعیة ذات الماهیة .
والحاصل : أنّ الماهیة لا بشرط ـ أی التی لم یلحظ معها شیء ـ هی الماهیة المقسمیة التی هی نفس الماهیة ، ولا یعقل الجامع بین الماهیة الکذائیة وغیرها . ونفس ذات الماهیة عبارة اُخری عن الماهیة التی لم یلحظ معها شیء بنحو السلب البسیط ، لا الإیجاب العدولی .
وإن أراد من عدم اعتبار القید عدم اعتباره بالسلب الترکیبی ـ أی الماهیة التی لوحظت کونها لامع قید علی نحو العدول ، أو لم یعتبر معها شیء فی اللحاظ علی نحو الموجبة السالبة المحمول ـ فهو أیضاً مثل ما تقدّم ؛ لأنّه یصیر اللا بشرط قسیماً مع بشرط شیء ومبایناً ، وهو بصدد الفرار عن کونهما متباینین .
ومنها : أنّ ما ذکره من عدم الجامع بین المتضادّین غیر صحیح ، بل قد عرّف الضدّان بأنّهما أمران وجودیان داخلان تحت جنس قریب ، بینهما غایة الخلاف . فتسلیم الجامع بین العدم والملکة دون المتضادّین غریب جدّاً .
ومنها : أنّه لو سلّمنا أنّ التقابل بینهما تقابل العدم والملکة فلا یستلزم ذلک عدم وجوب الاحتیاط إذا کان بین المتعلّقین تباین ؛ ولو بنحو العدم والملکة .
ألا تری : أنّه لو علم إجمالاً بوجوب إکرام شخص مردّد بین الملتحی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 301 والکوسج یجب الاحتیاط ، مع أنّ بینهما تقابل العدم والملکة .
ولو علم بوجوب إکرام واحد من الإنسان مردّد بین مطلق الإنسان أو الإنسان الرومی یکفی إکرام مطلق الإنسان ـ رومیاً کان أو غیره ـ لعدم کون المتعلّق مردّداً بین المتباینین ، وعدم التقابل بینهما .
والحاصل : أنّه لیس مجرّد کون التقابل بینهما تقابل العدم والملکة میزاناً للرجوع إلی البراءة ، وکون التقابل غیره میزاناً للرجوع إلی الاحتیاط کما عرفت ، بل المیزان فی الاحتیاط کون المتعلّق مردّداً بین المتباینین ، وفی البراءة کونه مردّداً بین الأقلّ والأکثر .
ثمّ إنّ تحقیق تقسیم الماهیة إلی الأقسام الثلاثة ، وأنّ المقسم هل هو نفس الماهیة أو لحاظ الماهیة ؟ وتوضیح الفرق بین المطلقین المقسمی والقسمی موکول إلی محلّه وأهله ، وذکرنا نبذاً من ذلک عند البحث عن المطلق والمقیّد ، فراجع .
الإشکال الثانی :
إنّ متعلّق التکلیف فی باب الأقلّ والأکثر مردّد بین المتباینین ؛ فإنّ المرکّب الملتئم من الأقلّ له صورة وحدانیة غیر صورة المرکّب من الأکثر ، فهما صورتان متباینتان ، ویکون التکلیف مردّداً بین تعلّقه بهذا أو ذاک ، فیجب الاحتیاط .
والجواب ـ مضافاً إلی أنّه لو صحّ الإشکال لزم وجوب الاحتیاط بتکرار الصلاة ، لا ضمّ المشکوک إلی المتیقّن ـ أنّ فیما مضی کفایة لردّ هذا الإشکال ؛ لأنّ نسبة صورة المرکّب الاعتباری إلی الأجزاء لیست نسبة المحصّل إلی المحصّل ، ولا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 302 لها حقیقة وراء حقیقة الأجزاء حتّی یکون المتحصّل من بعض الأجزاء غیر المتحصّل من عدّة اُخری .
بل العقل تارة یری الأجزاء فی لحاظ الوحدة واُخری فی لحاظ الکثرة ، وهذا لایوجب اختلافاً جوهریاً بین الملحوظین . فحینئذٍ یرجع الاختلاف بین الصورتین إلی الأقلّ والأکثر ، کما یرجع الاختلاف بین الأجزاء إلیهما أیضاً .
الإشکال الثالث :
إنّ وجوب الأقلّ دائر بین کونه نفسیاً أصلیاً توجب مخالفته العقاب ، وکونه نفسیاً ضمنیاً لایعاقب علی ترکه ؛ فإنّ العقاب إنّما هو علی ترک الواجب الأصلی لا الضمنی ، فلا یحکم بلزوم إتیان الأقلّ علی أیّ تقدیر ، بل یکون أمره من هذه الجهة کالمردّد بین الواجب والمستحبّ ، فإذا لم یحکم العقل بوجوب إتیانه کذلک فلا ینحلّ به العلم الإجمالی ، فلابدّ من الخروج عن عهدته بضمّ الزیادة علیه .
وفیه أوّلاً : أنّ حصول المرکّب فی الخارج إنّما هو بوجود عامّة أجزائه بلا نقص واحد منها ، وأمّا عدمه فکما یحصل بترک الأجزاء عامّة ، کذلک یحصل بترک أیّ جزء منه .
ومن ذلک یعلم : أن لیس للمرکّب أعدام ـ لأنّ نقیض الواحد واحد ـ بل له عدم واحد ، ولکنّه تارة یستند إلی ترک الکلّ ، واُخری إلی جزء منه .
فحینئذٍ : فلو ترک المکلّف المرکّب من رأس أو الأجزاء المعلومة ـ أی الأقلّ ـ فقد ترک المرکّب ، فیکون معاقباً علی ترک المأمور به بلا عذر .
وأمّا لو أتی بالأجزاء المعلومة ـ الأقلّ ـ وترک الجزء المشکوک فیه بعد ما فحص واجتهد ولم یعثر علی بیان من المولی بالنسبة إلیه ، وفرضنا وجوب الأکثر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 303 فی نفس الأمر فقد ترک فی هذه الحالة أیضاً المأمور به ، ولکن لاعن عصیان ، بل عن عذر .
وبالجملة : أنّ الفرق بین الأوّلین والثالث واضح جدّاً ؛ فإنّ المکلّف وإن ترک المأمور به فی الجمیع إلاّ أنّه ترک فی الأوّلین ترک الأجزاء من رأس ، وترک الأجزاء المعلومة عصیاناً للمولی ؛ لأنّ ترکه للأجزاء عین ترکه للمأمور به ، فیعاقب علی ترکه بلا عذر ولا حجّة . وهذا بخلاف الثالث ؛ فإنّ المأمور به وإن کان متروکاً إلاّ أنّ الترک عن عذر . وهذا المقدار کافٍ فی لزوم الإتیان بالأقلّ عند العقل علی کلّ حال ، بخلاف المشکوک فیه .
وبعبارة اُخری : أنّ المکلّف حین ترک الأقلّ واقف علی ترک الواجب تفصیلاً ؛ إمّا لأنّ الواجب هو الأقلّ الذی ترکه ، أو الأکثر الذی یحصل ترکه بترک الأقلّ ، فیجب الإتیان به علی کلّ حال .
وما ذکره القائل من أنّ ترک الأقلّ لیس بحرام علی کلّ حال غیر تامّ ؛ لأنّ ترک الأقلّ لمّا کان ترکاً بلا عذر یجب الإتیان به ؛ للعلم بأنّ فی ترکه عقاباً علی أیّ جهة کان ، وهذا کافٍ فی الانحلال .
وثانیاً : أنّ ما یلزم علی العبد هو تحصیل المؤمّن القطعی من العقاب الذی هو مستند البراءة العقلیة ، ولا یتحقّق المؤمّن القطعی إلاّ فی مورد یکون العقاب قبیحاً علی المولی الحکیم ؛ لامتناع صدور القبیح منه .
فحینئذٍ : فلو علم أو احتمل العقاب یجب علیه الإطاعة والاحتیاط ؛ وإن کان الاحتمال ضعیفاً ؛ لأنّ تمام الموضوع للاحتیاط هو احتمال العقاب لاغیر .
وعلیه : فلو دار التکلیف بین کونه ممّا یعاقب علیه أو لا ـ کما هو شأن الأقلّ فی المقام ـ یجب علیه الاحتیاط بلا کلام .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 304 وإن شئت قلت : إنّ ما یرجع إلی المولی إنّما هو بیان الأحکام لا بیان العقوبة علی الأحکام ، فلو حکم المولی بحرمة الخمر ، واحتمل العبد أنّ المولی لایعاقب علیه فلا یمکن الاکتفاء به فی مقام تحصیل المؤمّن عن العقاب .
کما أنّه إذا حرّم شیئاً وعلم العبد أنّ فی ارتکابه عقاباً ، ولکن لم یبیّن المولی کیفیة العقوبة فارتکبه العبد ، وقد کان المنهی عنه فی نفس الأمر ممّا أعدّ المولی لمخالفته عقاباً شدیداً فلا یعدّ ذلک العقاب من المولی عقاباً بلا بیان ؛ لأنّ ما هو وظیفته إنّما هو بیان الأحکام ، لا بیان ما یترتّب علیه من المثوبة والعقوبة .
إذا عرفت ذلک فنقول : قد تقدّم أنّ التکلیف بالأجزاء عین التکلیف بالمرکّب ، وأنّ الأقلّ دائر أمره بین کونه واجباً نفسیاً أصلیاً ـ أی کونه تمام المرکّب مستوجباً للعقوبة علی ترکه ـ أو نفسیاً ضمنیاً ، ویکون المرکّب هو الأکثر ، والعقوبة علی ترکه لا علی ترک الأقلّ .
وحینئذٍ : فالأقلّ یحتمل العقوبة وعدمها ، وفی مثله یحکم العقل بالاحتیاط ؛ لأنّه لو صادف کونه تمام المرکّب لایکون العقاب علیه بلا بیان ؛ فإنّ ما لزم علی المولی هو بیان التکلیف الإلزامی ، والمفروض أنّه بیّنه .
ولیس علیه بیان کون الواجب ممّا فی ترکه العقوبة ، کما أنّه لیس له بیان أنّ الأقلّ تمام الموضوع للأمر ، کما لایخفی .
ولعمر القارئ إنّ انحلال العلم فی المقام أوضح من أن یخفی ؛ لأنّ کون الأقلّ واجباً تفصیلیاً ممّا لاسترة فیه ، فکیف یقع طرفاً للعلم الإجمالی ؟ وما أفاده بعض أعاظم العصر من أنّ تفصیله عین إجماله أشبه شیء بالشعر من البرهان .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 305
الإشکال الرابع :
ما ذکره بعض أعاظم العصر رحمه الله وأوضحه بتقریبین :
الأوّل : أنّ العقل یستقلّ بعدم کفایة الامتثال الاحتمالی للتکلیف القطعی ؛ ضرورة أنّ العلم بالاشتغال یستدعی العلم بالفراغ ؛ لتنجّز التکلیف بالعلم به ـ ولو إجمالاً ـ ویتمّ البیان الذی یستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب علیه ؛ فلو صادف التکلیف فی الطرف الآخر الغیر المأتی به لایکون العقاب علی ترکه بلا بیان .
ففی ما نحن فیه لایجوز الاقتصار علی الأقلّ عقلاً ؛ لأنّه یشکّ معه فی الامتثال والخروج عن عهدة التکلیف المعلوم فی البین ، ولا یحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصیة الزائدة المشکوکة .
والعلم التفصیلی بوجوب الأقلّ المردّد بین کونه لا بشرط أو بشرط شیء هو عین العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد بین الأقلّ والأکثر ، ومثل هذا العلم التفصیلی لا یعقل أن یوجب الانحلال ؛ لأنّه یلزم أن یکون العلم الإجمالی موجباً لانحلال نفسه ، انتهی کلامه .
وفیـه : أنّ العلم الإجمالی قائم بالتردّد والشکّ ـ أی الشکّ بأنّ هـذا واجب أو ذاک ـ ولیس المقام کذلک ؛ للعلم بوجوب الأقلّ علی کلّ حال والشکّ فی وجـوب الزائد ؛ إذ المفروض : أنّ الواجب هو ذات الأقلّ علی نحو الإطلاق المقسمی ، ووجـوبه لاینافی مع وجـوب شیء آخـر أو عـدم وجوبه ؛ إذ الأکثر لیس إلاّ الأقلّ والزیادة ، ولا یفترق حال الأقلّ بالنسبة إلی تعلّق أصل التکلیف به ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 306 ضمّت إلیه الزیادة أو لا تضمّ .
فالقطع التفصیلی حاصل من غیر دخول الإجمال بالنسبة إلی وجوب الأجزاء التی یعلم انحلال المرکّب إلیها . وإنّما الشکّ فی أنّ الجزء الزائد هل یکون دخیلاً فیه حتّی یکون متعلّق التکلیف بعین تعلّقه بالمرکّب ، أولا ؟ وهذا عین ما أوضحناه مراراً بأنّ هنا علماً تفصیلیاً وشکّاً بدویاً .
وإن شئت قلت : إنّ الاشتغال الیقینی یستدعی البراءة الیقینیة بمقدار ما قام الدلیل علی الاشتغال . ولا إشکال فی أنّ الحجّة قائمة علی وجوب الأقلّ ، وأمّا الزیادة فلیست إلاّ مشکوکاً فیها من رأس ، ومع ذلک فکیف یجب الاحتیاط ؟ !
وما أفـاده : من أنّ الأقـلّ المـردّد بین اللابشرط وبشرط شـیء هـو عین العلم الإجمالی ، فیلزم أن یکون العلم الإجمالی موجباً لانحلال نفسه ، غیر تامّ ؛ لأنّ الأقلّ متعلّق للعلم التفصیلی لیس إلاّ ، والشکّ إنّما هـو فی الـزیادة ، لا فی مقـدار الأقلّ .
وإن شئت عبّرت : بأنّه لیس علم إجمالی من رأس حتّی یحتاج إلی الانحلال ، بل علم تفصیلی وشکّ بدوی . ولیس حاله نظیر قیام الأمارة علی بعض الأطراف الموجب للانحلال .
الثانی من التقریبین اللذین فی کلامه رحمه الله ، ومحصّله : أنّ الشکّ فی تعلّق التکلیف بالخصوصیة الزائدة المشکوکة من الجزء أو الشرط وإن کان لایقتضی التنجیز واستحقاق العقاب علی مخالفته من حیث هو ـ للجهل بتعلّق التکلیف به ـ إلاّ أنّ هناک جهة اُخری تقتضی التنجیز واستحقاق العقاب علی ترک الخصوصیة علی تقدیر تعلّقه بها ؛ وهی احتمال الارتباطیة وقیدیة الزائد للأقلّ ؛ فإنّ هذا الاحتمال بضمیمة العلم الإجمالی یقتضی التنجیز .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 307 فإنّه لا رافع لهذا الاحتمال ، ولیس من وظیفة العقل وضع القیدیة أو رفعها ، بل ذلک من وظیفة الشارع ، ولا حکم للعقل من هذه الجهة . فیبقی حکمه بلزوم الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم والقطع بامتثاله علی حاله ، فلابدّ من ضمّ الخصوصیة الزائدة ، انتهی کلامه .
قلت : لیت شعری أیّ فرق بین الجزء الزائد واحتمال الارتباطیة والقیدیة فی أنّه تجری البراءة العقلیة فی الأوّل دون الأخیرین ، مع أنّ الکلّ من القیود الزائدة المشکوک فیها ، التی لایکون العقاب علیها إلاّ عقاباً بلا بیان . وقد اعترف قدس سره فی صدر کلامه بأنّ کلّ خصوصیة مشکوک فیها یکون العقاب علیها عقاباً بلا بیان .
وأمّا ما أفاده : من أنّه لیس وظیفة العقل رفع القیدیة أو وضعها فهو صحیح لکن لیس معنی البراءة العقلیة رفع التکلیف ، بل مفاد البراءة العقلیة هو حکم العقل علی أنّ العقاب علی المشکوک فیه عقاب بلا بیان ، من غیر فرق بین أن یکون المشکوک فیه ذات الجزء أو الارتباطیة .
وعلی أیّ حال : فإذا کان الأقلّ متعلّقاً للعلم التفصیلی ، من غیر کون الخصوصیة متعلّقة للعلم ، بل مشکوک فیها من رأس فتجری البراءة فی أیّة خصوصیة مشکوک فیها .
ولعمر القارئ إنّ بین صدر کلامه وذیله تناقضاً ظاهراً ، ولعلّ التدبّر الصحیح یرفع تلک المناقضة ، فتأمّل .
وهاهنا تقریر ثالث للاشتغال ؛ وهو أنّ الأقلّ معلوم الوجوب بالضرورة ، ومع إتیانه یشکّ فی البراءة عن هذا التکلیف المعلوم ؛ لأنّ الأکثر لو کان واجباً لایسقط
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 308 التکلیف المتوجّه إلی الأقلّ بإتیانه بلا ضمّ القید الزائد ، فلابدّ للعلم بحصول الفراغ من ضمّه إلیه .
وإن شئت عبّرت : بأنّ الاشتغال قد تعلّق بالأقلّ لا بالأکثر ، لکن الخروج عن الاشتغال المعلوم تعلقه بالأقلّ لایحصل یقیناً إلاّ بضمّ المشکوک ، والذی یحمل المکلّف علی الإتیان بالزائد إنّما هو الاشتغال بالأقلّ الذی لایحصل الیقین بالبراءة عنه إلاّ بالإتیان بالمشکوک .
والجواب : أنّ وجوب الأقلّ لیس وجوباً مغایراً لوجوب المرکّب ، بل هو واجب بعین وجوبه ، وقد عرفت أنّ الوجوب المتعلّق بالأجزاء فی لحاظ الوحدة داعٍ بنفسه إلی الإتیان بالأجزاء ، ولیس الأجزاء واجباً غیریاً ، کما أنّ نسبتها إلی المرکّب لیست کنسبة المحصِّل إلی المحصَّل .
وحینئذٍ : ما قامت الحجّة علیه ـ وهو الأقلّ ـ یکون المکلّف آتیاً به ، وما ترکه لم تقم الحجّة علیه . فما علم اشتغال الذمّة به أطاعه ، وما لم یعلم لم یتحقّق الامتثال بالنسبة إلیه .
فلو کان الواجب هو الأقلّ فقد امتثله ، ولو کان هو مع الزیادة فقد حصل عنده المؤمّن من العقاب ؛ وهو کون العقاب علیه عقاباً بلا بیان .
وإن شئت قلت : إنّه لایعقل أن یکون للأمر بالمرکّب داعویة بالنسبة إلی أجزائـه مرّتین ، بل له داعویة واحدة إلی الکلّ ، وهو یدعو بهذه الدعوة إلی کلّ واحد من الأجزاء . وعلیه : فلو أتی بالأقلّ فقد أتی بما یکون الأمر داعیاً إلیه ، وما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 309 لم یأت به فهو مشکوک لیس للأمر بالنسبة إلیه داعویة .
فإن قلت : لو کان الواجب هو الأکثر یکون المأتی به لغواً وباطلاً ، فمع الشکّ فی أنّ الواجب هو الأکثر یدور أمر الأقلّ بین کونه إطاعة أو أمراً باطلاً ، فلابدّ من إحراز کونه إطاعة ومنطبقاً علیه ذلک العنوان .
قلت : إنّ الإطاعة والعصیان من الاُمور العقلیة ، والعقل یحکم بوجوب إطاعة ما أمر به المولی وبیّنه ، لا ما أضمره وکتمه . والمفروض أنّ ما وقع تحت دائرة البیان قد امتثله وأطاعه ، ومعه لماذا لاینطبق علیه عنوان الإطاعة ؟
فإن قلت : إنّ الصلاة وإن کانت موضوعة للأعمّ من الصحیح إلاّ أنّ البعث لا یتعلّق بالصحیح منها ؛ لأنّ الملاک فی التسمیة غیر الملاک فی تعلّق الطلب . وعلیه یلزم الإتیان بالجزء المشکوک حتّی یحرز انطباق عنوان الصحیح علیه .
قلت : إنّ الصحّة والفساد من عوارض الطبیعة الموجودة ، وما هو متعلّق للأمر إنّما هو نفس الطبیعة ، فمن المستحیل أن یتعلّق البعث بأمر موجود ، کما أوضحناه فی محلّه . وعلیه فالطبیعة صادقة علی الأقلّ والأکثر ، فما علم تقیید الطبیعة من الأجزاء یجب الإتیان به ، وما لم یعلم یجری فیه البراءة العقلیة .
الإشکال الخامس :
ما ذکر المحقّق صاحب «الحاشیة» ، وننقله بعین عبارته عن کتابه المطبوع فی آخر «حاشیته علی المعالم» ، وما نسبنا إلیه من الإشکال السابق فقد تبعنا فی النسبة علی بعض أعاظم العصر رحمه الله ، وهذا التقریب غیره ، بل أمتن منه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 310 وإلیک نصّ عبارته ملخّصاً : إذا تعلّق الأمر بطبیعة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت الاشتغال ، إلاّ أنّه یدور الأمر بین الاشتغال بالأقلّ والأکثر ، ولیس المشتمل علی الأقلّ مندرجاً فی الحاصلة بالأکثر ، کما فی الدین ؛ إذ المفروض ارتباطیة الأجزاء . ولایثمر القول بأنّ التکلیف بالکلّ تکلیف بالأقل ؛ لأنّ المتیقّن تعلّق الوجوب التبعی بالجزء ، لا أنّه مورد للتکلیف علی الإطلاق .
فاشتغال الذمّة ـ حینئذٍ ـ دائر أمره بین طبیعتین وجودیتین لایندرج أحدهما فی الآخر ، فلا یجری الأصل فی تعیین أحدهما ؛ لأنّ مورده هو الشکّ فی وجوده وعدمه ، لا ما إذا دار الأمر بین الاشتغال بوجود أحد الشیئین .
فإن قلت : إنّ التکلیف بالأکثر قاضٍ بالتکلیف بالأقلّ ، فیصدق ثبوت الاشتغال به علی طریق اللا بشرط ، فیدور الأمر فی الزائد بین ثبوت التکلیف وعدمه .
قلت : لیس التکلیف بالأقلّ ثابتاً علی طریق اللا بشرط ؛ لیکون ثبوت التکلیف به علی نحو الإطلاق ، بل ثبوته هناک علی سبیل الإجمال والدوران بین کونه أصلیاً أو تبعیاً ، فعلی الأوّل لا حاجة إلی الأصل ، وعلی الثانی لایعقل إجراؤه .
أقول : قد عرفت أنّ الأقلّ لیس مغایراً للأکثر عنواناً ولا طبیعة ، بل الأکثر هو الأقلّ مع الزیادة ، فما أفاده من أنّ الأمر دائر بین طبیعتین وجودیتین لا یندرج أحدهما فی الآخر غیر تامّ جدّاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 311 کما أنّ ما یظهر منه من أنّ الأقلّ واجب بوجوب التبعی لا بالوجوب المتعلّق بالمرکّب علی فرض تعلّقه بالأکثر غیر صحیح ، بل الأقلّ واجب بوجوبه علی أیّ تقدیر ؛ أمّا علی تقدیر کون الأقلّ تمام المأمور به فواضح ، وأمّا علی تقدیر تعلّقه بالأکثر فالأمر الداعی إلی المرکّب داعٍ بنفس تلک الدعوة إلی الأجزاء ؛ إذ لیست الأجزاء إلاّ نفس المرکّب فی لحاظ التفصیل ، کما أنّه عینها فی لحاظ الوحدة .
وبعد منع تلک المقدّمتین یظهر النظر فی ما أفاده من التقریب ، ولا نطول بتوضیحه .
الإشکال السادس :
ما أفاده المحقّق الخراسانی رحمه الله بتقریبین ، ومرجع الأوّل إلی دعوی تحقّق العلم الإجمالی وامتناع الانحلال ؛ للزوم الخلف ، ومرجع الثانی إلی امتناعه لأجل کون وجود الانحلال مستلزماً لعدمه .
أمّا الأوّل : فتوضیحه أنّ تنجّز التکلیف وتعلّقه بالأکثر لابدّ وأن یکون مفروضاً حتّی یحرز وجوب الأقلّ فعلاً علی کلّ تقدیر ؛ إمّا لنفسه وإمّا لغیره ؛ لأنّه مع عدم مفروضیة تنجّزه وتعلّقه بالأکثر لایعقل العلم بفعلیة التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ علی کلّ تقدیر ؛ فإنّ أحد التقدیرین کونه مقدّمة للأکثر ، فلو لزم من فعلیة التکلیف بالأقلّ عدم تنجّز الأکثر یکون خلف الفرض .
وأمّا الثانی : فلأنّ الانحلال یستلزم عدم تنجّز التکلیف علی أیّ تقدیر وهو مستلزم لعدم لزوم الأقلّ علی أیّ تقدیر ، وهو مستلزم لعدم الانحلال ، فلزم من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 312 وجود الانحلال عدمه ، وهو محال ؛ فالعلم الإجمالی منجّز بلا کلام .
وهاهنا تقریب ثالث ، نبّهنا علیه عند البحث عن مقدّمـة الواجب ، وهو : أنّه إذا تولّد من العلم الإجمالی علم تفصیلی لایعقل أن یکون ذلک العلم مبدءً لانحلال العلم السابق ؛ لأنّ قوامه بالأوّل ، فلا یتصوّر بقاء العلم التفصیلی مع زوال ما هو قوام له .
فلو علم إجمالاً أنّ واحداً من الوضوء والصلاة واجب له ، ولکن دار وجوب الوضوء بین کونه نفسیاً أو غیریاً فلا یصحّ أن یقال : إنّ الوضوء معلوم الوجوب تفصیلاً ؛ لکونه واجباً إمّا نفسیاً أو مقدّمیاً ، وأمّا الصلاة فمشکوکة الوجوب من رأس ؛ لأنّ العلم علی وجوبه ـ علی أیّ تقدیر ـ إنّما نشأ من التحفّظ بالعلم الإجمالی ، ولو رفع الید عنه فلا علم بوجوبه علی أیّ تقدیر .
والجواب : أنّ روح هذه التقریبات واحدة ، وکلّها مبنی علی أنّ الأجزاء واجب بالوجوب الغیری الذی یترشّح من الأمر بالکلّ ، وأنّ الأجزاء والکلّ یختلفان عنواناً وطبیعةً .
وقد عرفت فساد هذه الأقوال کلّها ، وأنّ الوجوب المتعلّق بالأقلّ عین الوجوب المتعلّق بالمرکّب ، سواء ضمّ إلیه شیء أو لم یضمّ ، وأنّه لو ضمّ إلیه شیء لایتغیّر حال الأقلّ فی تعلّق الأمر به ، غیر أنّه یکون للأمر نحو انبساط لبّاً بالنسبة إلیه ، وإن لم یضمّ إلیه شیء یقف علی الأقلّ ولا یتجاوز عنه . هذا علی تعابیر القوم .
وإن شئت قلت : لو انضمّ إلیه شیء ینحلّ إلیه المرکّب ویحتجّ بالأمر بالمرکّب بالنسبة إلی الزائد ، وإن لم یضمّ فلا ینحلّ ولا یحتجّ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 313 وعلی المختار ـ کون الأجزاء واجباً بعین وجوب الکلّ ـ فلا یتوقّف وجوب الأقلّ علی أیّ تقدیر ، علی تنجّز الأکثر ؛ فإنّ الأمر بالمرکّب معلوم ، وهو أمر بالأجزاء المعلومة أی ینحلّ المرکّب الذی تنجّز الأمر بالنسبة إلیه ، إلی الأجزاء المعلومة بلا إشکال ؛ سواء کان الجزء الآخر واجباً أو غیر واجب .
فتنجّز الأمر بالأقلّ عین تنجّز الأمر بالمرکّب ، ولا یتوقّف وجوبه علی وجوب شیء آخر . فلا إشکال فی وجوب الأقلّ علی کلّ تقدیر ؛ انحلّ المرکّب إلی المعلومة من الأجزاء فقط ، أو إلیها وإلی أمر آخر .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر رحمه الله تفصّی عن الإشکال فی بعض أجوبته ، مع تسلیم کون وجوب الأجزاء مقدّمیاً .
وأنت إذا أحطت خُبراً بما أشرنا إلیه هنا ـ من أنّه إذا کان العلم التفصیلی متولّداً من العلم الإجمالی فلا یعقل أن یکون ذلک التفصیل مبدءً للانحلال ـ تقف علی صحّة مقالنا وضعف ما أفاده رحمه الله ، فلا نطیل المقام .
الإشکال السابع :
ما أفاده الشیخ الأعظم رحمه الله ، ویستفاد من کلامه تقریبان ، لا بأس بتوضیحهما :
الأوّل : أنّ المشهور بین العدلیة : أنّ الأوامر والنواهی تابعة لمصالح فی المأمور به ومفاسد فی المنهی عنه ، وأنّ الواجبات الشرعیة ألطاف فی الواجبات
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 314 العقلیة ، والأحکام الشرعیة وإن تعلّقت بعناوین خاصّة ـ کالصلاة والصوم والسرقة والغیبة ـ إلاّ أنّ المأمور به والمنهی عنه حقیقة هو المصالح والمفاسد ، والأمر بالصلاة والنهی عن الغیبة إرشاد إلی ما هو المطلوب فی نفس الأمر .
والسرّ فی تعلّقها بالعناوین دون نفس المصالح والمفاسد عدم علم العباد بکیفیة تحصیلها أو الاجتناب عنها ، ولو اطّلع العقل بتلک المصالح والألطاف لَحکم بلزوم الإتیان بها .
فالمصالح والألطاف هی المأمور بها بالأمر النفسی ، والعناوین التی تعلّق بها الأمر والنهی فی ظاهر الشرع محصّلات ـ بالکسر ـ تلک الغایات ، وأوامرها إرشادیة مقدّمیة ، ومع الشکّ فی المحصّل لا مناص عن الاحتیاط .
الثانی : أنّ الأوامر المتعلّقة بالعناوین وإن کانت أوامر حقیقیة غیر إرشادیة إلاّ أنّ المصالح والمفاسد أغراض وغایات لتلک الأوامر والنواهی ، ولا یحرز الغرض إلاّ بالإتیان بالأکثر .
وإن شئت قلت : إنّ المصالح والمفاسد والأغراض المولویة علّة البعث نحو العمل وعلّة لظهور الإرادة فی صورة الأمر والزجر . فکما أنّ وجود الأشیاء وبقائها إنّما هو بوجود عللها وبقائها فهکذا انعدامها وسقوطها بسقوط عللها وفنائها .
فحینئذٍ : فالعلم بسقوط الأوامر والنواهی یتوقّف علی العلم بسقوط الأغراض وحصول الغایات الداعیة إلیها ، فمع الإتیان بالأقلّ یشکّ فی إحراز المصالح ، فیشکّ فی سقوط الأوامر ، فمع العلم بالثبوت لابدّ من العلم بالسقوط ، وهو لا یحصل إلاّ بالإتیان بالأکثر .
والفرق بین التقریبین أوضح من أن یخفی ؛ فإنّ المأمور به والمنهی عنه علی الأوّل هو المصالح والمفاسد ، والعناوین محصّلات ، وعلی الثانی فالأوامر النفسیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 315 وإن تعلّقت بالعناوین حقیقة لکنّها لأجل أغراض ومقاصد ، فما لم تحصل تلک الأغراض لاتسقط الأوامر والنواهی .
وقد أشار الشیخ الأعظم إلی التقریبین بقوله : إنّ اللطف : إمّا هو المأمور به حقیقة أو غرض للآمر ، فیجب تحصیل العلم بحصول اللطف .
وبذلک یظهر : أنّ ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله من أنّ مراده لیس مصلحة الحکم وملاکه ، بل المراد منه التعبّد بالأمر وقصد امتثاله ، لیس بشیء وإن أتعب نفسه الشریفة ، فراجع .
فالجواب عن الأوّل : أنّ کون أفعال الله معلّلة بالأغراض من المسائل الکلامیة ، وهو أساس لهذه القضیة الدائرة من تبعیة أوامره ونواهیه لمصالح أو مفاسد مکنونة فی المتعلّق ، ولا شکّ أنّ غایة ما قام علیه الدلیل هو أنّه یمتنع علیه تعالی الإرادة الجزافیة ؛ للزوم العبث فی فعله ، والظلم علی العباد فی تکلیفه .
فبما أنّ الأوامر والنواهی أفعال اختیاریة له تعالی فلابدّ أن تکون معلّلة بالأغراض ، فی مقابل ما یدّعیه الأشاعرة النافین للأغراض والغایات فی مطلق أفعاله .
وعلیه فدفع العبثیة کما یحصل باشتمال نفس تلک العناوین علی مصالح ومفاسد قائمة بها متحصّلة بوجودها ، کذلک یحصل بکون المصلحة فی نفس البعث والزجر .
بل یمکن أن یقال : إنّ تلک العناوین مطلوبات بالذات ، من قبیل نفس الأغراض ، أو تکون الأغراض اُموراً اُخر غیر المصالح والمفاسد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 316 والحاصل : أنّ الأدلّة المذکورة فی محلّه لا یثبت ما ذکر فی وجه الأوّل .
أضف إلیه : أنّ تعلّق الأمر بالمصالح النفس الأمریة التی یستتبعها تلک العناوین ممّا یمتنع علیه تعالی ؛ للزوم اللغویة والعبث ؛ لأنّ الأمر بالشیء والبعث إلیه لأجل إیجاد الداعی فی نفس المکلّف حتّی ینبعث ببرکة سائر المبادئ نحوه ، وهو فرع وصول الأمر إلیه .
ولا یعقل أن تکون الأوامر النفس الأمریة الغیر الواصلة إلی المکلّفین متعلّقة بعناوین واقعیة مجهولة لدیهم وباعثة نحوها ؛ فإنّ البعث والتحریک فرع الوصول والاطّلاع . وعلیه فتعلّقها بها لایکون إلاّ لغواً وعبثاً ممتنع علیه تعالی .
وأمّا الجواب عن الثانی : فیکفی ما قدّمناه عن الأوّل عنه أیضاً ؛ فإنّ العلّة الغائیة وإن کانت تعدّ من أجزاء العلّة إلاّ أنّه لایلزم أن یکون الغایة مغایراً لنفس العنوان الذی وقع تحت دائرة الطلب ، بل من المحتمل أن یکون الغرض الذی دلّ الدلیل علی امتناع خلوّ فعله تعالی عنه هو قائماً بنفس الأمر .
وبالجملة : احتمال کون الغرض هوقائماً بنفس الأمر أو کونه نفس المأمور به ؛ بمعنی کونه محبوباً بالذات ، من دون أن یکون محصّلاً للغرض ینفی الاشتغال .
بل التحقیق : أنّه لم یدلّ دلیل علی تحصیل الأغراض الواقعیة للمولی التی لم یقم علیها حجّة ، بل العقل یحکم بلزوم الخروج عن العهدة بمقدار ما قام علیه الحجّة . وبما أنّ الحجّة قامت علی الأقلّ فلو کان الغرض حاصلاً به فهو ، وإلاّ ففوت الغرض مستند إلی قصور بیان المولی ؛ لعدم البیان ، أو لعدم إیجاب التحفّظ والاحتیاط .
بل لنا أن نقول : إنّ الغرض یسقط بالأقلّ ویتبعـه سقوط الأمر ؛ إذ لو لم یسقط به فی نفس الأمر لوجب علی المولی الحکیم : إمّا البیان أو جعل الاحتیاط ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 317 تحفّظاً علی أغراضه ، وإلاّ یلزم التلاعب بالغرض ونقضه ، وهو قبیح علی الحکیم . وحیث إنّه لم یبیّنه ولم یوجب الاحتیاط نستکشف من ذلک قیام الغرض بالأقلّ وسقوطه به .
أضف إلی ذلک : أنّ العلم الإجمالی إذا کان بعض أطرافه مجهول العنوان ؛ بحیث لا ینقدح فی ذهن المکلّف بعنوانه أبداً لایکون منجّزاً ؛ فإنّ تنجیزه متوقّف علی إمکان الباعثیة علی أیّ تقدیر ـ أی فی أیّ طرف کان من الأطراف ـ فإذا کان بعضها مجهول العنوان لا یمکن البعث إلیه .
وما نحن فیه من هذا القبیل ؛ إذ نحتمل أن یکون للصلاة ـ مثلاً ـ أجزاء لم تصل إلینا أصلاً ، ونحتمل دخالته فی سقوط الغرض . ومثل هذا العلم غیر منجّز أصلاً ؛ لکون طرف العلم مجهول العنوان .
فلزوم العلم بسقوط الغرض الواقعی موجب لعدم العلم فی مطلق التکالیف بسقوط الأوامر ؛ إذ ما من تکلیف إلاّ ویحتمل دخالة شیء فی متعلّقه دخیل فی حصول الغرض لم یصل إلینا حتّی یصحّ الاحتیاط ، ویلزم منه سدّ باب الإطاعات .
فتحصّل من ذلک : عدم لزوم شیء علی العبد إلاّ الخروج عن عهدة ما قامت الحجّة علیه ؛ سقط الغرض لبّاً أم لا .
نعم مع العلم بالغرض الملزم لابدّ من تحصیله ؛ کان أمر من المولی أم لا .
الإشکال الثامن :
هذا الإشکال یختصّ بالأوامر القربیة ، ولا یجری فی التوصّلیة ، وهو : أنّ أمر الأقلّ دائر بین کونه نفسیاً صالحاً للتقرّب ، وکونه غیریاً مقدّمیاً غیر صالح له ، وما حاله کذلک لایمکن أن یتقرّب به .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 318 وأمّا الأکثر : فالأمر المتعلّق به نفسی صالح للتقرّب ؛ إمّا لکونه بنفسه هو المأمور به ، أو کون المأمور به هو الأقلّ ، ولکنّه یقصد التقرّب بما هو واجب فی الواقع ، فینطبق علیه علی کلّ تقدیر .
وفیه : أنّ ما هو المعتبر فی العبادات هو أن یکون العبد متحرّکاً بتحریک المولی ، ویکون الأمر باعثاً مع مبادئ آخر ـ کالخوف والرجاء ونحوهما ـ نحو المتعلّق ، ولا یکون الداعی فی إتیانه أغراض اُخر کالریا ونحوه ، لا بأن یکون قصد الأمر والامتثال ونحوهما منظوراً إلیه ، بل حقیقة الامتثال لیست إلاّ الإتیان بداعویة الأمر ، وبه یحصل التقرّب ویصیر العبد ممتازاً عن غیره .
وقد عرفت : أنّ المرکّب عبارة عن أجزاء وشرائط فی لحاظ الوحدة ، ویکون الأمر الداعی إلی المرکّب داعیاً إلی الأجزاء ، لابداعویة اُخری .
فحینئذٍ نقول : لا شبهة فی أنّ الآتی بالأقلّ القائل بالبراءة والآتی بالأکثر القائل بالاشتغال کلّ واحد منهما متحرّک بتحریک الأمر المتعلّق بالمرکّب ؛ فقوله تعالی : «أَقِمِ الصلاةَ» محرّک للآتی بالأقلّ والآتی بالأکثر ، من غیر فرق بینهما من هذه الجهة .
وإنّما یفترقان فی أنّ القائل بالبراءة لا یری نفسه مکلّفاً بإتیان الجزء المشکوک فیه ، بخلاف القائل بالاشتغال ، وهذا لایصیر فارقاً فیما هما مشترکان فیه ؛ وهو الإتیان بالأجزاء المعلومة بداعویة الأمر بالمرکّب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 319 ثمّ لو فرض الوجوب الغیری للأجزاء فیمکن للآتی بالأقلّ قصد التقرّب ؛ لاحتمال کون الأقلّ واجباً نفسیاً ، وما لا یمکن له هو الجزم بالنیّة ، وهو غیر معتبر فی العبادات جزماً ؛ ولهذا یصحّ العمل بالاحتیاط وترک طریقی الاجتهاد والتقلید .
وکما أنّ الجزم بالنیّة غیر ممکن مع الإتیان بالأقلّ کذلک غیر ممکن مع الإتیان بالأکثر ؛ لعدم العلم بمتعلّق التکلیف . فقصد القربة ممکن منهما ، والجزم غیر ممکن منهما بلا افتراق بینهما .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 320