استدلال القائلین بوجوب الرجوع إلی الأعلم
استدلّ القائلون به بوجوه :
منها : الإجماعات المنقولة التی لاقیمة لها فی مثل تلک المسألة العقلیة التی تضاربت فیها الأقوال والآراء مع تراکم الأدلّة .
ومنها : الأخبار التی منها المقبولة ، وقد عرفت أنّ القائل بجواز الرجوع
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 640 إلی المفضول تمسّک بإطلاق صدرها ، والقائل بتعیّن الفاضل تمسّک بما فی الذیل ؛ من نفوذ حکم الأفقه عند تعارضه مع حکم الفقیه ، فنفوذ حکمه متعیّناً یستلزم نفوذ فتواه کذلک فی المسألة ، فیتعدّی إلی غیرها بإلغاء الخصوصیة أو القطع بالملاک ؛ لا سیّما مع تناسب الأفقهیة والأصدقیة فی الحدیث لذلک من المرجّحات .
وفیه : أنّ ملاک التقدّم فی المقبولة إنّما هی الصفات الأربعة بحکم واو العطف ، لا الأفقهیة فقط . وعلیه : فلا یکون تلک ملزمة بمجرّدها .
وما استظهره الشیخ الأعظم فی «رسالة التعادل والتراجیح» من أنّ الراوی بعد ما سمع المرجّحات الأربعة عن الإمام سأل عن صورة التساوی ، ولم یسأل عن صورة وجود بعض منها دون بعض ، وهذا یکشف عن أنّ المرجّح کلّ واحد منها مستقلّاً لا مجتمعاً ، غیر ظاهر ولا کاشف عمّا ادّعاه .
أضف إلیه : أنّ التلازم إنّما هو بین نفوذ الحکم وحجّیة فتواه ، لا بین عدم نفوذه وعدم حجّیة فتواه ؛ لأنّ سلب المرکّب أو ما بحکمه إنّما هو بسلب بعض أجزائه . فعدم نفوذ حکم غیر الأفقه یمکن أن یکون لأجل عدم کون حکمه فاصلاً ، ویمکن أن یکون لعدم حجّیة فتواه . ونفی الأخصّ لایدلّ علی نفی الأعمّ ، وعدم جواز أخذه فتواه فی المقام لایدلّ علی سلب الحجّیة عن فتواه ، بل لعدم کون فتواه فاصلاً ورافعاً للترافع ، بل الفتوی مطلقاً ـ وإن کان فتوی الأعلم ـ لیس بفاصل بل الفاصل هو الحکم .
وجعل الأفقهیة علّة تامّة لتقدیم قضاء أعلم الحکمین ممّا یحتاج إلی الدلیل ، مع احتمال أن یکون للقضاء دخلاً فی تقدیم قضائه ؛ فإنّ مرکز القضاء غالباً هی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 641 النوامیس والحقوق . ومن المحتمل أنّ الشارع لاحظ فیها جانب الاحتیاط ، فحکم بنفوذ حکم الأعلم دون غیره ، لأقربیته إلی الواقع ، ولکنّه أطلق القول فی أخذ الفتوی فی أحکامه وشرائعه ؛ إرفاقاً للناس وتوسعةً علیهم . ومعه کیف یمکن القول بکون الأفقهیة علّة تامّة ؟ !
وأوضح من ذلک فساداً إلغاء الخصوصیة أو القطع بالملاک ، کما لایخفی .
واستدلّ القائلون أیضاً بوجه آخر دارج فی کلامهم ؛ وهو ادّعاء أقربیة قول الأعلم إلی الواقع ؛ قائلاً أنّ نظره طریق محض إلی الواقع کنظر غیره ، من غیر فرق بین الأحکام الواقعیة الأوّلیة أو الثانویة ، والأعذار العقلیة والشرعیة .
فإذا کان قوله أقرب لزم الأخذ به فی مقام إسقاط التکالیف وإقامة الأعذار ، ولو جاز الأخذ بغیره أیضاً لزم موضوعیته ، انتهی .
وفیه : منع الصغری ؛ لأنّ فتوی غیر الأفضل ربّما یکون أقرب من فتوی الأفضل ؛ لموافقته لفتوی من هو أفضل منه ممّن مات ، أو لفتوی الأعلم من الأحیاء إذا لم یجز تقلیده لفقد شرط من شروطه ، وربّما یکون فتوی غیر الأعلم موافقاً لفتوی الباقین من الفقهاء ، ویکون الأعلم متفرّداً فی رأیه فی الأحیاء .
ویظهر من بعض الأعیان من المحقّقین فی تعلیقته خلاف ما ذکرنا ؛ حیث قال : إنّ حجّیة الفتوی لیس لأجل مطلق الظنّ بحکمه تعالی ؛ ولذا لایجوز عمل العامّی بظنّه ، بل لأجل أنّه خصوص ظنّ حاصل من فتوی المجتهد المستند إلی حجّة قاطعة للعذر . فما هو الحجّة عقلاً أو شرعاً هو الظنّ الخاصّ ، دون الظن بما أفتی به المجتهد ؛ وإن لم یحصل من فتوی المجتهد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 642 وعلیه : فدعوی الفرق بین الأقربیة الداخلیة والخارجیة فی کمال القوّة .
وأمّا الظنّ الحاصل من موافقة فتوی الحیّ المفضول للأفضل من الأموات : فحیث إنّه متقوّم بفتوی من لا حجّیة لفتواه فهو کالظنّ الحاصل من سائر الأمارات الغیر المعتبرة .
وأمّا الأقوائیة الحاصلة من مطابقة فتوی المفضول لغیره من الأحیاء : فهی غیر مسلّمة ؛ إذ المطابقة لا محالة لوحدة المدرک وتقارب أنظارهم وأفکارهم . فالکلّ فی قوّة نظر واحد ، ولا یکشف توافق آرائهم عن قوّة مدارکهم من مدرک الأفضل ، وإلاّ لزم الخلف ؛ لفرض أقوائیة نظر الأفضل من غیره فی مرحلة الاستنباط بجمیع جهاته .
ومنه یعرف : فساد قیاس المورد بالخبرین المتعارضین المحکی أحدهما بطرق متعدّدة دون الآخر ؛ إذ لیست الحکایات المتعدّدة بمنزلة حکایة واحدة ، فلا محالة یوجب کلّ حکایة الظنّ بصدور شخص هذا الکلام من الإمام علیه السلام ، ولا یلزم منه الخلف ، کما کان یلزم فیما نحن فیه ، انتهی بنصّه .
وفیه : أنّ المقصود فی منع الصغری إنّما هو ردّ أقربیة فتوی الأفضل إلی الواقع عن غیره ، وهذا یحصل بتوافق رأی المفضول للأعلم من الأحیاء الغیر الصالح للرجوع ، أو توافقه لباقی الفقهاء وتفرّد الأفضل .
وما ذکره من أنّ هذا التوافق من الظنون الحاصلة من الأمارات الغیر المعتبرة لایصلح لردّه ، وإنّما یصلح لردّ دعوی تقدّم قول المفضول فی مقام الاحتجاج ، وهو خارج عمّا نرتأیه ، کما لا یخفی . وبذلک یسقط کلّ ما أفاده فی صدر کلامه ؛ فإنّ المقصود ردّ أقربیته فقط .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 643 وأمّا إنکار أقربیة قول المفضول إذا وافق جلّ الفقهاء وتفرّد الأفضل برأیه علی نحو الذی ذکره فمنظور فیه ؛ لأنّ اتّفاق آراء أهل الفنّ علی أمر واحد یوجب سلب الاطمئنان عمّا یخالفه ، ولایبقی له وثوق أصلاً ، ولایجری أصالة عدم الغفلة والسهو فی اجتهاده .
وما أفاد : «من أنّ اتّفاقهم لایکشف عن قوّة مدارکهم ؛ لکون الکلّ بمنزلة نظر واحد» غریب جدّاً .
ومثله ما أفاد : «من أنّه لو کشف عن قوّة مدارکهم لزم الخلف ؛ لفرض أقوائیة نظر الأفضل عن غیره فی مرحلة الاستنباط» ؛ فإنّ المسلّم إنّما هو أقوائیة نظر الأفضل عن المفضول فقط ، لا عن جلّ الفقهاء أو الأعلم الذی لایجوز تقلیده لمانع من الموانع .
ثمّ إنّه یمکن منع الکبری ـ أعنی أنّه یجب الأخذ بالأقرب جزماً عند المعارضة ـ بأنّ ادّعاء تعیّن الرجوع إلی الأقرب یتوقّف علی إدراک العقل لزوم الأخذ به وتعیّنه ؛ إدراکاً جزمیاً قطعیاً لایحتمل خلافه ؛ بحیث لو ورد دلیل علی خلافه من الشرع لأَوّله أو طرحه .
وأنّی للعقل هذا الإدراک ؟ ! إذ للشارع ترخیص الرجوع إلی المفضول إذا رأی مفسدة فی تعیّن الرجوع إلی الأفضل ، أو رأی مصلحة فی توسعة الأمر علی المکلّفین ، کما هو الواقع فی جواز العمل بقول الثقة وترک الاحتیاط ، من دون أن یستلزم ذاک الترخیص والرجوع إلی المفضول موضوعیته ، کما ادّعاه المستدلّ .
نعم ، لو وقف العقل علی لزوم إحراز الواقعیات وإدراک عدم رضاء المولی بترکها لحکم بلزوم العمل بالاحتیاط وعدم جواز العمل بقول الفاضل والأفضل ، من غیر فرق بین لزوم العسر والحرج واختلال النظام وعدمه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 644 والحاصل : أنّه لا یتسنّی للعقل الحکم الباتّ بتعیّن الرجوع إلی الأقرب مع احتمال ورود تعبّد من الشارع بالترخیص فی الرجوع إلی الفاضل والمفضول ، ومع هذا الاحتمال ـ ولو کان ضعیفاً ـ لا مساغ لادّعاء القطع بتعیّن الأخذ به . وتوهّم عدم وجود ذاک الاحتمال لایخلو عن مکابرة .
ثمّ إنّ بعض الأعیان المحقّقین قد صحّح الکبری فی تعلیقته ، ونحن ننقل ملخّص کلامه ، فقال : إن اُرید : أنّ القرب إلی الواقع لادخل له أصلاً فهو خلاف الطریقیة الملحوظة فیها الأقربیة إلی الواقع .
وإن اُرید : أنّ القرب إلی الواقع بعض الملاک ، وأنّ هناک خصوصیة اُخری تعبّدیة فهو غیر ضائر بالمقصود ؛ لأنّ فتوی الأفضل وإن کانت مساویة لفتوی غیره فی تلک الخصوصیة التعبّدیة ، إلاّ أنّها أقوی من غیرها ؛ من حیثیة القرب الذی هو بعض الملاک ، فإنّ الأرجح لایجب أن یکون أقوی من غیره من جمیع الجهات . هذا إذا کانت الخصوصیة التعبّدیة ممّا یتقوّم به الملاک ، وکانت جزء المقتضی .
وأمّا إن کانت شرطاً لتأثیر القرب إلی الواقع فی جعل الأمارة حجّة فالأمر أوضح ؛ إذ العبرة فی القوّة والضعف بحال المقتضی دون الشرط .
ومنه یظهر : فساد القیاس بمثل البصر والکتابة إذا اعتبرا فی القاضی ؛ فإنّه لایترجّح الأقوی بصراً أو الأجود خطّاً علی غیره ، فکذا هنا .
وجه الفساد : أنّ المعرفة فی الإفتاء هو الملاک والمقتضی للحجّیة ، فیؤثّر قوّته فی رجحانه وتقدیمه ، بخلاف البصر والکتابة ؛ فإنّها شرائط ، والمقتضی لتعیّنه علمه بموازین القضاء .
مضافاً إلی أنّ المراد بالأعلم : إن کان أقوی معرفة ؛ بحیث لاتزول بتشکیک المشکّک لقوّة مبنی عرفانه فالأمر کما فی البصر والکتابة ؛ فإنّ المطلوب أصل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 645 وجودهما لا قوّتهما ، فکذا المعرفة . ولا أثر لقوّة المعرفة .
وأمّا إن کان المراد بالأعلم من کان أحسن استنباطاً من غیره فحینئذٍ لا مجال للقیاس ؛ فإنّ الأعلم بهذا المعنی أکثر إحاطةً بالجهات الموجبة للاستنباط المغفولة عن غیره ؛ لقصور نظره . فمرجع التسویة بین الأعلم وغیره إلی التسویة بین العالم والجاهل ؛ لقصور نظر غیره عمّا وصل إلیه الأفضل .
وهذا وجه آخر لتعیّن الأعلم ؛ وإن لم نقل بأقربیة فتواه إلی الواقع ، ولم نقل بأنّ الملاک ـ کلّاً أو بعضاً ـ هو القرب إلی الواقع ؛ فإنّ فتوی الأعلم أوفق بمقتضیات الحجج الشرعیة والعقلیة ؛ لبلوغ نظره إلی ما لم یبلغ نظر غیره ؛ لفرض الأعلمیة . فیکون بإضافة إلی غیره کالعالم بالإضافة إلی الجاهل ، فیتعیّن فی مقام إبراء الذمّة ، وأنّ التسویة بینهما کالتسویة بین العالم والجاهل ، انتهی کلامه .
وفی کلامه مواقع للنظر ، نشیر بوجه الإجمال إلی مهمّاتها :
منها : أنّ الخصوصیة التعبّدیة المحتملة لایلزم أن تکون جزء المقتضی ولا شرطه حتّی یرد ما ذکره ، بل یحتمل أن یکون مانعاً عن تعیّن الرجوع إلی الأفضل ؛ إمّا لفسادٍ فی تعیّنه أو لتوسیع الأمر علی المکلّفین ، کما فی العمل بقول الثقة وعدم لزوم العمل بالاحتیاط ، من دون استلزام ذلک کون العمل به من باب الموضوعیة لا الطریقیة .
ومنها : أنّ تفسیر الأعلم بالأحسن استنباطاً وکونه أقوی نظراً عن غیره تعبیر آخر عن أقربیة رأیه ونظره إلی الواقع . فما أفاد من أنّ هذا وجه آخر لتعیّن الأعلم ـ وإن لم نقل بأقربیة فتواه إلی الواقع ـ لایخلو من تدافع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 646 ومنها : أنّ ما ذکره من أنّ التسویة بین الفاضل والأفضل یرجع إلی التسویة بین العالم والجاهل یستلزم قبح الرجوع إلی المفضول عقلاً ، بل امتناعه . ولا أظنّ أحداً یلتزم به ، وقد تقدّم أنّ جواز الرجوع إلیه لیس لأجل التسویة بینها ، بل لمصالح اُخر لتوسیع الأمر علی المکلّفین ، أو لوجود الفساد فی تعیّنه علی ما تقدّم .
ثمّ إنّ هاهنا وجوهاً اُخر استدلّوا بها علی لزوم تقلید الأعلم ؛ من کون المقام من قبیل دوران الأمر بین التخییر والتعیین ، أو بناء العقلاء علی الرجوع إلی الأعلم عند الاختلاف ، وقد مرّت الإشارة إلیها ، فافهم .
فتلخّص من هذا البحث : أنّه لم یقم دلیل علی لزوم تقدیم رأی الأعلم إلاّ الأصل المشار إلیه فی صدر البحث .
مع إمکان منعه أیضاً فی الأمثلة المتقدّمة ؛ أی فیما إذا کان رأی غیره موافقاً لرأی الأعلم من الأموات والأحیاء إذا کانوا فاقدین لبعض شرائط أخذ الفتوی منهم ، وفیما إذا کان رأی غیر الأعلم موافقاً لرأی عامّة الفقهاء من الماضین والحاضرین ، وکان الأعلم وحیداً فی رأیه ؛ فإنّ المقام یصیر من قبیل دوران الأمر بین التعیینین ، لاالتعیین والتخییر ، والأصل فیه التخییر .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ تعیّن غیر الأعلم فی هذه الأمثلة غیر محتمل حتّی یدور الأمر بین ما ذکر ؛ لتسالم الأصحاب علی خلافه ، فیدور الأمر ـ حینئذٍ ـ بین التعیین والتخییر فی عامّة الموارد ، والحکم فیه هو الأخذ بالقدر المتیقّن ؛ وهو الأعلم .
هذا إذا علم المخالفة تفصیلاً أو إجمالاً . وأمّا إذا کانت محتملة فلا یبعد التخییر وعلیه السیرة ، ویمکن استفادة ذلک ممّا تقدّم من الروایات ، فلاحظ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 647