هل التخییر فی صورة تعدّد الواقعة بدوی أو استمراری ؟
الأمر الثالث : إذا تعدّدت الوقائع فهل التخییر بدوی أو استمراری ؟
الأقوی هو الثانی ؛ لأنّ المکلّف إذا أتی فی الواقعة الثانیة بخلاف الاُولی یعلم بمخالفة قطعیة وموافقة قطعیة ، ولیس فی نظر العقل ترجیح بینهما ، فصرف لزوم مخالفة قطعیة لا یمنع عن التخییر بعد حکم العقل بعدم الفرق بین تحصیل تکلیف قطعاً وترک تکلیف قطعاً .
وتوضیحه : أنّ کلّ واقعة : إمّا أن تلاحظ مستقلاًّ بلا لحاظها منضمّة إلی واقعة اُخری ، فیدور أمر المکلّف فی کلّ جمعة أو کلّ واقعة بین المحذورین ، أو تلاحظ منضمّة إلی واقعة اُخری ، فیحصل له علمان : العلم بأنّ صلاة الجمعة إمّا محرّمة فی هذا الیوم أو واجبة فی الجمعة الآتیة ، والعلم بأنّها إمّا واجبة فی هذا الیوم أو محرّمة فی الجمعة الآتیة .
فامتثال کلّ علم علی وجه القطع مخالفة قطعیة للعلم الآخر ، مثلاً لو ترک الجمعة فی الحاضرة وصلّی فـی القادمـة فهو وإن امتثل العلم الأوّل ـ العلم بأنّها إمّـا محرّمة فی الیوم أو واجبـة فی القادمـة ـ إلاّ أنّـه خالف العلم الثانی ـ العلم بأنّها إمّا واجبة فی هذا الیوم أو محرّمة فی القادمة ـ کما أنّه لـو عکس انعکس القضیة .
إذا عرفت هذا فنقول : لو کان کلّ واقعـة موضوعاً مستقلاًّ فلا شکّ أنّـه یجری البراءة ؛ سواء کان ما یختاره عین ما اختاره أو ما یختاره فی القادمة أو لا ، کما هو واضح .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 171 وأمّا إذا لوحظ الوقائع مجتمعة ومنضمّة فلو کان التخییر بدویاً ـ کأن یکون فاعلاً فی کلّ الوقائع أو تارکاً ـ فلا یتحقّق مخالفة قطعیة ، کما لا یتحقّق موافقة قطعیة ، بل یکون محتمل الموافقة والمخالفة .
وأمّا إذا کان التخییر استمراریاً وکان المکلّف فاعلاً فی واقعة وتارکاً فی اُخری فیتحقّق موافقة قطعیة ومخالفة قطعیة .
وبما أنّه لا دلیل علی ترجیح الموافقة والمخالفـة الاحتمالیتین علی الموافقـة والمخالفة القطعیتین فلا جرم لم یکن وجه للزوم کون التخییر بدویاً لا استمراریاً . وترجیح الاُولی بانتفاء المخالفة القطعیة فیها معارض بوجود الموافقة القطعیة فی الثانی .
وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر قدس سره بما محصّله : إنّ المخالفـة القطعیـة لم تکن محرّمة شرعاً بل هی قبیحة عقلاً ، وقبحها فرع تنجّز التکلیف ؛ فإنّ مخالفة التکلیف الغیر المنجّز لا قبح فیها ، کما لو اضطرّ إلی أحـد الأطراف المعلوم بالإجمال فصادف الواقع ؛ فإنّه مع حصول المخالفة یکون المکلّف معذوراً ، ولیس ذلک إلاّ لعدم تنجّز التکلیف .
وفیما نحن فیه لا یکون التکلیف منجّزاً فی کلّ واقعة ؛ لأنّ فی کلّ منها یکون الأمر دائـراً بین المحذورین ، وکـون الواقعة ممّا تتکرّر لا یوجب تبدّل المعلوم بالإجمال ولا خروج المورد عن الدوران بین المحذورین ، انتهی کلامه .
ففیه : أنّ عدم تنجّز التکلیف فی المقام لیس لقصور فیه ؛ ضرورة کونه تامّاً من جمیع الجهات ، وإنّما لم یتنجّز لعدم قدرة المکلّف علی الموافقة القطعیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 172 ولا المخالفة القطعیة ؛ بحیث لو فرضنا ـ محالاً ـ إمکان الموافقة القطعیة یحکم العقل بلزومها ، ولو فرض عدم إمکان الموافقة القطعیة لکن أمکن المخالفة القطعیة یحکم بحرمتها ؛ لتمامیة التکلیف .
وبالجملة : التنجیز فیما نحن فیه فرع إمکان المخالفة ، لا أنّ حرمة المخالفة فرع التنجیز ، فإذا أمکن المخالفة یصیر التکلیف منجّزاً لرفع المانع ؛ وهو امتناع المخالفة القطعیة .
والشاهد علیه : أنّه لو فرضنا قدرة المکلّف علی رفع النقیضین فی الواقعة الواحدة یحکم العقل بحرمته ، ولیس ذلک إلاّ لعدم القصور فی ناحیـة التکلیف ، وإنّما القصور فی قدرة العبد ، وفی الوقائـع المتعدّدة یکون العبد قادراً علی المخالفة ، فیتنجّز التکلیف .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 173