الجهة الاُولی : فی إمکان الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی
فلا إشکال أنّ العقل ـ مع قطع النظر عن الأدلّة المرخّصة علی فرض وجودها ـ یحکم بوجوب موافقة الأمارات وعدم جواز مخالفتها ؛ سواء علم قیامها علی أمر تفصیلاً أو إجمالاً ، ویحکم مع العلم الإجمالی بقیام أمارة : إمّا علی وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال أو علی وجوبه عند غروب الشمس ، علی لزوم المطابقة القطعیة وحرمة مخالفتها القطعیة .
لکن لا بملاک المعصیة والإطاعة ؛ لعدم إحراز موضوعهما ؛ لعدم العلم بتصادف الأمارة للواقع ، بل بملاک قطع العذر واستحقاق العقوبة علی فرض مطابقتها للواقع ، أو بملاک المعصیة التقدیریة ؛ أی علی فرض المصادفة .
فلو ارتکب أحد أطراف المعلوم بالإجمال فیحتمل قیام الأمارة علیه وعدمه ، وعلی فرضه یحتمل تصادف الأمارة للواقع وعدمه ، لکن علی فرض تصادف الاحتمالین للواقع لا عـذر له فی ترک المأمـور به الواقعی ؛ فیستحقّ العقوبـة علیه .
والحاصل : أنّ العلم بالحجّـة الإجمالیـة کالعلم بالحجّـة التفصیلیـة فی نظـر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 183 العقل ؛ لأنّ العمل بها واتّباعها مـؤمّن عـن العقاب ؛ صادف أو خالف . والإعـراض عنها یحتمل معه العقاب ، فیجب دفعه .
والعلم بالحجّة وإن لم یکن ملازماً مع العلم بالحکم لکنّه یجب العمل به عقلاً ؛ لحصول الأمن معه ، فإنّ المکلّف یعدّ إذا صادفت الأمارة للواقع غیر معذور إذا لم یعمل به .
هذا حکم العقل إذا قصّر نظره إلی أدلّة الأمارات .
ومع ذلک کلّه : لا مانع هنا للشارع عن جعل الترخیص ، ولیس حکم العقل بلزوم اتّباع الحجّة الإجمالیة مانعاً عن جعل الترخیص ، کما لیس هاهنا مانع من ناحیة الخطابات الأوّلیة ولا من غیرها .
توضیحه : أنّ ما هو القبیح علی المولی إنّما هو الإذن فی معصیته ومخالفته ؛ فلو وقف المکلّف بعلم وجدانی علی کونه مطلوباً فالترخیص فی ترکه یعدّ لدی العقل قبیحاً بالنسبة إلی المولی الذی لا یتلاعب بأحکامه وأغراضه . فالعلم بالمطلوب والإلزام به ، ثمّ الترخیص فیه مع بقائه علی المطلوبیة التامّة التی لا یرضی بترکه نقض فی الغرض لا یلیق بساحة الحکیم .
بل یمکن أن یقال : إنّ امتناعه لیس لأجل کونه أمراً قبیحاً ، بل هو أمر ممتنع بالذات ؛ لامتناع اجتماع إرادتین متعلّقتین علی فعله وترکه ، فالترخیص فی المعصیة مع کونه قبیحاً محال ذاتاً .
ولکن کون الترخیص إذناً فی المعصیة فرع العلم بکونه محبوباً ومطلوباً تامّاً ، والمفروض أنّ الموجود فی المقام لیس إلاّ العلم بالحجّة ، ولا نعلم کونها مطابقة للواقع أو لا ؟
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 184 فالترخیص فی مخالفتها لحفظ غرض أهمّ علی فرض المطابقة للواقع لیس ترخیصاً فی المعصیة ؛ لعدم العلم بالحکم ، بل هو ترخیص فی مخالفة الأمارة وإجازة فی مخالفة الحجّة . فما یدّعی من الامتناع والاستقباح غیر آتٍ فی المقام .
وأمّا توهّم المانع من ناحیة الخطابات الأوّلیة واستلزام ذلک الترخیص تقییداً أو تخصیصاً فی أدلّة الواقعیة فقد مرّ توضیحه ودفعه .
والحاصل : أنّی لا أظنّ بقاء المجال للتشکیک فی إمکان الترخیص ـ حتّی بالنسبة إلی جمیع الأطراف ـ بعد تصوّر محطّ البحث ؛ لعدم لزوم شیء ممّا ذکر ، کلزوم الإذن فی المعصیة ؛ ضرورة أنّ الإذن فی مخالفة الأمارة لا یلازم الإذن فی المعصیة ، بل قد یلزم منه الإذن فی مخالفة الواقع ولا إشکال فیه ؛ لجواز رفع الید عن الواقع لأجل تزاحم جهات أهمّ منه .
وإن شئت فاعطف نظرک إلی أشباهه ونظائره ؛ فإنّ الشکّ بعد تجاوز المحلّ أو خروج الوقت لا یترتّب علیه الأثر مع إمکان کون المضی موجباً لتفویت الواقع ، ومثله الإذن بالعمل بالاستصحاب أو إیجاب العمل به ؛ فإنّ الترخیص والإذن والأمر فی هاتیک الموارد یکشف عن عدم فعلیة الأحکام الواقعیة ؛ بمعنی رفع الید عنها للمزاحم الأقوی ، من غیر تقیید لها أو تخصیص .
فلو فرغنا عن دلالة الأدلّة المرخّصة إثباتاً ، ولم یکن محذور فی مقام الاستفادة عن الأخذ بمفادها فلا نتصوّر مانعاً فی المقام .
فما ربّما یتراءی فی کلمات الأعاظم من تصوّر المحاذیر الثبوتیة ؛ من أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف مستلزم للإذن فی المعصیة وهو قبیح عقلاً ، أو أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 185 حکم العقل بالنسبة إلی المخالفة القطعیة علی نحو العلّیة التامّة ، وبالنسبة إلی الموافقة القطعیة کذلک أو بنحو الاقتضاء ، کلّ ذلک ناشٍ من خلط محلّ البحث بما هو خارج عنه .
فإذا تبیّن إمکان الترخیص فلو دلّت الأدلّة علی الترخیص فلا مانع من القول بمقالة المحقّقین ، الخوانساری والقمی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 186