فی الوجوه المتصوّرة للحقیقة الادعائیة
منها : ما أفاده المحقّق الخراسانی ؛ من أنّها من قبیل نفی الموضوع کنایة عـن نفی آثاره ، کقول القائل : «یا أشباه الرجال ولا رجال» مدّعیاً أنّ تمام حقیقة الرجولیة هو المروّة والشجاعة ، فإذا فقدتا فقد فقدت الرجولیة . والمراد من الآثار
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 501 المنفیة هـی الأحکام المتعلّقة بالموضوعـات بعناوینها الأوّلیـة ، کوجـوب الوفاء بالعقد الضرری ووجوب الوضوء الضرری .
والظاهر : أنّ مرجع هذا إلی ما اختاره الشیخ الأعظم ، ویشهد له ما ذکره الشیخ فی رسالته التی عملها فی قاعدة لاضرر ؛ حیث قال فی عداد معانیها : «الثالث : أن یراد به نفی الحکم الشرعی الذی هو ضرر علی العباد ، وأنّه لیس فی الإسلام مجعول ضرری ، وبعبارة اُخری : حکم یلزم من العمل به الضرر علی العباد» فقد جعل نفی الحکم الذی یلزم الضرر من العمل به تفسیراً لما قبله ؛ أعنی نفی الحکم الشرعی الذی هو ضرر علی العباد .
وبذلک یتّضح معنی قوله فی «الفرائد» : أنّ الشارع لم یشرّع حکماً یلزم منه ضرر علی أحد ؛ فإنّ المراد لیس الحکم المستلزم للضرر ولو بوسائط عدیدة ، بل المراد ما ذکره فی الرسالة : الحکم الذی یلزم الضرر من العمل به علی العباد .
وعلیه : فما أفاده المحقّق الخراسانی من الفرق بین مختاره وما أفاده الشیخ الأعظم لیس بسدید ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 502 ومنها : ما أفاده فی «تعلیقته علی الفرائد» : أنّ المنفی هو الحکم الضرری بلسان نفی الموضوع علی نحو الحقیقة الادّعائیة ، مثل : «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ» ؛ بمعنی أنّ الشارع لم یجوّز الإضرار بالغیر ، أو وجوب تحمّل الضرر عنه ، والفرق بین المختارین واضح .
ومنها : ما أفاده شیخنا العلاّمة فی درسه الشریف ـ علی ما هـو ببالی ـ مـن أنّ النفی نفی تشریعی ، وأنّه بلحاظ محیط التقنین ، فإذا فرض أنّ سلطان مملکة قلع أسباب الضرر برفع الأحکام الضرریة وعـدم تشریعها ونهی الناس عـن الإضرار وأمر بالتدارک عنده یصحّ أن یقول : إنّه لاضرر فی مملکتی وحـوزة سلطانی وحمی قدرتی . وهو رحمه الله کان بصدد حمله علی الحقیقة دون الحقیقة الادّعائیـة .
لکنّه غیر سدید ؛ لأنّ الضرر المنفی هو الضرر الخارجی ، وهو کان فی حوزة سلطنته صلی الله علیه و آله وسلم کثیراً . ومجرّد نهی الناس عن الإضرار والأمر بالتدارک لایوجب فقدان الضرر وقلعه ، ولایستلزم الحمل علی الحقیقة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 503 ولو قیل باختصاصه بنفی الأحکام الضرریة ، وأنّ المرمی نفی الضرر عن محیط التشریع ، وأنّه لایشمل إضرار البعض ببعض ، فلا یکون علی وجه الحقیقة أیضاً ؛ لوجود الأحکام الضرریة إلی ما شاء الله ؛ من تشریعه الجهاد والخمس والزکاة والکفّارات .
ولو اُغمض عنه وقیل : إنّها لیست أحکاماً ضرریة لبّاً فلا مسرح للحقیقة ؛ لأنّ المنفی حقیقة هو الحکم الضرری ، والمنفی حسب الظاهر هو نفس الضرر ، وإطلاق نفی الضرر وإرادة نفی الحکم الضرری لایکون حقیقة قطعاً . کیف ، وهو قدس سره کان بصدد تصحیح حکومة لا ضرر علی الأحکام الواقعیة ؟ فلا مسرح عن القول بأنّ المنفی هو الحکم ؛ وإن کانت حرف النفی داخلة علی الضرر .
ومنها : ما اخترناه ؛ وهو أنّ المصحّح للحقیقة الادّعائیة هی السببیة والمسبّبیة ، لا بمعنی إطلاق المسبّب وإرادة السبب ؛ فإنّ ذلک بمکان من الابتذال ـ کما مرّ فی ردّ القول بأنّها من قبیل المجاز فی الکلمة علی النحو المصطلح عندهم ـ بل بمعنی إطلاق المسبّب وإرادة نفسه ، لکن بادّعاء أنّها عین السبب ، وأنّ نفیه عین نفیه .
کما هو الحال فی عامّة المجازاة ؛ فإنّ الأساس للمجاز فی الأبواب هو الادّعاء ـ أی ادّعاء عینیة المعنی الحقیقی والمجازی ـ وإن کان مصحّح الادّعاء فی الحقائق الادّعائیة مختلف ؛ فربّما یکون المجاورة والسببیة والمسبّبیة وغیرهما ممّا أنهوه إلی خمسة وعشرین وجهاً ؛ فإنّ الأساس هو الادّعاء ؛ حتّی فیما جعلوه من قبیل المجاز فی الحذف ، کما فی قوله تعالی : «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی کُنّا فِیها» بادّعاء أنّ القریة کأهلها واقفة علی القضیة ؛ لکمال ظهورها واشتهارها ، وعلی ذلک جری الفرزدق فی مدح الإمام الطاهر زین العابدین علیه السلام :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 504
هذا الذی تعرف البطحاء وطأته
والبیت یعرفه والحلّ والحرم
وأمّا فی المقام : فبأن یقال إنّ السبب لوقوع المکلّف فی الضرر إمّا إطلاق الأحکام بالنسبة إلی الحالات الضرریة ، أو إضرار بعضهم ببعض . وإذا نفی الشارع فی حکومة تشریعه إطلاقها ، ولم یضع حکماً ضرریاً ، ونهی المکلّفین عن الإضرار فقد قلع بذلک اُصول الضرر ووسائله وحسم موادّه وأسبابه .
وبذلک یصحّ له أن یدّعی : عدم الضرر المسبّب فی محیط تشریعه علی سبیل الحقیقة الادّعائیة ، ویدّعی : أنّ الضرر هو الحکم حقیقة ، وأنّ نفیه عین نفیه .
والفرق بینه وبین ما ذکره المحقّق الخراسانی أظهر من أن یخفی ؛ فإنّ المصحّح للحقیقة الادّعائیة علی المختار هو علاقة السببیة والمسبّبیة وأمّا علی ما اختاره فباعتبار أنّ تمام حقیقة الموضوع عبارة عن آثاره ، کما أنّ تمام حقیقة الرجل إنّما هی المروّة والشجاعة ؛ فیصحّ ادّعاء نفی الموضوع بادّعاء نفی آثاره .
فالعقد الضرری إذا لم یجب الوفاء به صحّ أن یدّعی عدمه ، وأنّ العقد الکذائی غیر موجود فی محیط التشریع باعتبار عدم أظهر خواصّه .
کما أنّ الفرق بینه وبین ما أفاده شیخنا العلاّمة واضح جدّاً ؛ فإنّ المصحّح علی ما ذکرنا هی العلاقة المذکورة ، وأمّا علی ما أفاده فالمصحّح إنّما هو تنزیل الموجود منزلة المعدوم ؛ لقلع أسبابه وقطع اُصوله ، فتدبّر تعرف .
ومنها : أنّ الملاک للحقیقة الادّعائیة هو تنزیل الموجود منزلة المعدوم ، لکن لا علی النحو الذی عرفت ، بل باعتبار ندرة وجود الضرر وقلّته فی الخارج ؛ بحیث صار الموجود منه کالمعدوم ، فصحّ أن یقال : إنّه لاضرر فی الإسلام ، ویکون ذلک کنایة عن أنّه لیس فی الإسلام حکماً ضرریاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 505