مقتضی الأصل الأوّلی وجوب تقلید الأعلم
وقبل الخوض فیما یسوقنا إلیه الأدلّة لابدّ من تأسیس الأصل فنقول : الأصل حرمة العمل بغیر العلم ، کما أوضحنا سبیله فی مبحث حجّیة الظنّ ، ولا خفاء فی أنّ الرجوع إلی الغیر لأخذ الفتوی وتطبیق العمل علی قوله عمل بما لا یعلم العامل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 605 کونه مطابقاً للواقع ، من غیر فرق بین أن یکون مدرک جوازه السیرة العقلائیة أو الإجماع أو غیرهما من الروایات .
خرج عنه ـ بضرورة الفقه والدین ـ العمل بقول الأعلم ؛ لامتناع قیام الناس کلّهم علی الاجتهاد وبطلان وجوب العمل بالاحتیاط ، أو التبعیض فیه ، وبقی الباقی تحت المنع المسلّم ، فلا یخرج عنه إلاّ بالدلیل . هذا هو مقتضی الأصل الأوّلی .
وربّما یقرّر الأصل علی وجه آخر : وهو أنّ العلم الضروری حاصل لکلّ واحد من المکلّفین بوجود تکالیف فی الوقائع ؛ فلا یجوز له الإهمال لوجود العلم بالتکالیف الجدّیة ، ولا الاحتیاط لاستلزامه العسر والحرج ، بل الاختلال فی النظام ، ولا الرجوع إلی قول المفضول لاستلزامه ترجیح المفضول علی الفاضل وهو قبیح ، ولا یمکن تحصیل الاجتهاد لقضاء الضرورة علی خلافه ؛ فتعیّن العمل بقول الفاضل وهو المطلوب .
وفیه أوّلاً : أنّ العلم الإجمالی بوجود تکالیف فی الوقائع والحوادث منحلّ بالرجوع إلی فتاوی الأحیاء من المجتهدین ، ولیس له فیما ورائها علم أصلاً ، فیحکم العقل عندئذٍ الأخذ بأحوط الأقوال منهم ، ولایلزم العسر ولا الحرج ؛ فضلاً عن الاختلال .
وثانیاً : أنّ الأخذ برأی غیر الأعلم لیس من قبیل ترجیح المرجوح علی الراجح ؛ إذ ربّما یتّفق کثیراً مطابقة قوله مع فتوی میّت هو أعلم من الأحیاء عامّةً . علی أنّ الرجوع إلی فتوی الغیر من قبیل الرجوع إلی الأمارات ، وربّما یحتفّ فتوی المفضول بقرائن أو یوجد فیه خصوصیات یصیر أقرب إلی الواقع .
أضف إلیه : أنّ لازم ما ساقه من المقدّمات هو التبعیض فی الاحتیاط علی حدٍّ لا یستلزم العسر ، لا الرجوع إلی الأعلم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 606 وربّما یقال : إنّ مقتضی الأصل کون المفضول والفاضل متساوی الأقدام فی جواز التقلید ، بتقریب : أنّه إذا فرضنا مجتهدین متساویین من جمیع الجهات ، لایفضل واحد منهما علی الاُخری حَکم العقل بالتخییر بینهما ـ بعد الفراغ عن عدم جواز طرحهما أو الأخذ بأحوطهما ـ ویصیر حکم العقل بالتخییر مصدراً لاستکشاف حکم شرعی علی طبقه ، ثمّ إذا صار أحدهما بعد ردح من الزمن أعلم من الآخر فالأصل بقاء التخییر الشرعی المستکشف ، ویتمّ فی غیره بعدم القول بالفصل .
وفیه : أنّ ما هو الموضوع لحکم العقل هو الموضوع للحکم الشرعی المستکشف ، فلا یعقل بقاؤهما بعد ارتفاع الموضوع وانقلابه ، وأنّ حکم العقل بالتخییر کان بمناط قبح الترجیح بغیر مرجّح ، وکان حکم الشرع المستکشف به أیضاً بهذا المناط ، فلا یعقل بقاء هذا ولا ذاک بعد حدوث الترجیح وصیرورة أحدهما أعلم .
فإن قلت : یمکن أن یکون حکم الشرع بالتخییر بملاک آخر قائم مقام الأوّل عند ارتفاعه ، فإذا احتملنا قیام مناط آخر مقامه فقد احتملنا بقاء الحکم الشرعی ، والحکم الشرعی المستکشف وإن کان مقطوع الارتفاع ـ لارتفاع موضوعه ـ والحکم الشرعی القائم بمناط آخر وإن کان مشکوک الحدوث ، إلاّ أنّه لا بأس باستصحاب التخییر الجامع بینهما ، علی حذو ما قرّروه فی استصحاب الکلّی .
قلت : إنّ المجعول هو الحکم الشرعی الشخصی لا الجامع بینهما ؛ فالحکم بالتخییر بالمناط الأوّل مجعول ، کما أنّ الحکم به القائم بالمناط الآخر ـ علی فرض
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 607 ثبوته فی الواقع ـ مجعول مثله . وأمّا الجامع بینهما فهو أمر انتزاعی لا یتعلّق به الجعل ویمتنع وجوده فی الخارج ، وقد أوضحناه غیر مرّة ؛ فالتخییر بهذا الجامع لا حکم شرعی مجعول ، ولا موضوع لحکم شرعی .
لایقال : إنّ ذلک إنّما یتمّ فیما إذا کان الحکم الثانی المحتمل قائماً بملاک مبائن لملاک الحکم الأوّل ، وأمّا إذا کان الحکم الشرعی الواقعی فی نفس الأمر قائماً بملاک أوسع ممّا أدرکه العقل فلا بأس لاستصحاب الحکم الشرعی المستکشف ابتداءً ؛ لأنّ المستکشف حکماً وملاکاً غیر مبائن مع الحکم الواقعی النفس الأمری .
فیعدّ الحکم المنکشف مرتبة من مراتب الحکم الواقعی ، وملاکه مرتبة من الملاک الواقعی ، فیکون نفس الحکم الشخصی محتمل البقاء ، مع عدم العلم بارتفاع موضوعه .
لأنّا نقول : لا معنی للملاک الأوسع من ملاک حکم العقل ـ أی قبح الترجیح بلا مرجّح ـ فلابدّ وأن یکون بإزائه ملاک آخر ، لاملاک أوسع من قبح الترجیح .
نعم ، یمکن أن یقال : إنّ مقارن ملاک حکم العقل یحتمل أن یکون ملاک مستقلّ آخر ، فإذا ارتفع ملاک حکم العقل بقی شخص الحکم بذلک الملاک المستقلّ المجامع مع الملاک العقلی . فشخص الحکم قبل زوال ملاک حکم العقل کان معلولاً لهما أو لجامعهما ، وبعد زواله صار باقیاً ببقاء الملاک الآخر . فالشخص محفوظ ؛ وإن کان العلّة له ملاکین فی زمان وملاک واحد فی زمان آخر ، واختلاف العلّة لایوجب اختلاف الشخص عرفاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 608 ثمّ لو صحّ ما ذکر مـن التقریب أمکـن تقریب ما یعارضـه ؛ بأن یقال : لو انحصر الاجتهاد فی شخص واحد ، ثمّ بلغ الفرد الآخر مقام الاجتهاد ـ وإن لم یبلغ مرتبته ولم یدرک شأوه ـ فنشکّ عندئذٍ فی جواز الرجوع من الفاضل إلی المفضول ، فیستصحب عدم جوازه أو تعیّن قوله فی الحجّیة الفعلیة ، ویتمّ فی غیره بما ذکره من عدم القول بالفصل ، فتأمّل .
وهاهنا اُصول اُخر لهم ضربنا عنها صفحاً ؛ لوضوح ضعفها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 609