الثانی : فیما یدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة
قد اضطرب کلام القوم فی میزان الشبهة غیر المحصورة ، کما اضطرب فی بیان سرّ عدم وجوب الاجتناب عن بعض أطرافها أو جمیعها .
وأسدّ ما قیل فی المقام : ما أفاده شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ أنّ کثرة الأطراف توجب ضعف احتمال کون الحرام ـ مثلاً ـ فی طرف خاصّ ؛ بحیث لا یعتنی به العقلاء ، ویجعلونه کالشکّ البدوی ، فیکون فی کلّ طرف یرید الفاعل ارتکابه طریق عقلائی علی عدم کون الحرام فیه .
وإن شئت توضیحه فلاحظ حال العقلاء : تراهم لا یعتنون ویعدّون المعتنی ضعیف القلب .
فلو سمع الرجل أنّ واحداً من بیوت بلده التی فیها آلاف بیت قد أغرقه الماء أو وقع فیه حریق ، أو قرء فی جریدة أنّ واحداً من أهل بلده التی فیها مائة ألف نسمة قد قتل ، تراه لا یبالی بما سمعه . ولو صار بصدد التفتیش ، وأظهر الاضطراب والوحشة ؛ لاحتمال کون البیت بیته والمقتول ولده لعدّ ضعیف العقل أو عدیمه .
والسرّ فیه : هو أنّ کثرة الاحتمال یوجب موهومیة المحتمل .
ثمّ إنّ شیخنا العلاّمة قد استشکل فیما ذکره : بأنّ الاطمئنان بعدم الحرام فی کلّ واحد من الأطراف لا یجتمع مع العلم بوجود الحرام بینها .
وفیه : أنّ الإیجاب الجزئی وإن کان لا یجتمع مع السلب الکلّی إلاّ أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 243 المنافاة إنّما یتحقّق فی المقام إذا لوحظت الأفراد فی عرض واحد ، لا إذا لوحظت کلّ واحد فی مقابل الباقی .
فکلّ واحد من الأطراف إذا لوحظ فی مقابل الباقی یکون فیه احتمال واحد فی مقابل الاحتمالات الکثیرة . ولا إشکال فی ضعف احتمال واحد فی مقابل مائة ألف احتمال .
لا یقال : إنّا نعلم بأنّ واحداً من هذه الأمارات مخالف للواقع ، ومعها کیف یجوز العمل بها معه ؟
لأنّا نقول : إنّ العلم بکذب واحد من الأمارات غیر المحصورة کالعلم بنجاسة إناء بین عدّة غیر محصورة ؛ حرفاً بحرف .
ثمّ إنّه یمکن الاستدلال علی حکم الشبهة غیر المحصورة بروایات کثیرة :
منها : صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله علیه السلام قال : «کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام بعینه فتدعه» ؛ فإنّ ظهورها فی العلم الإجمالی لا یکاد یشکّ ، غیر أنّه خرج المحصورة بالإجماع أو بالعقل ، وبقی ما بقی .
والقول بأنّ الشبهة غیر المحصورة نادرة ضعیفٌ جدّاً ، بل غالب الشبهات غیر محصورة ، وقد یتّفق کونها محصورة .
ومنها : الروایات الواردة فی باب الجبن ، وقد مضی بعض القول فی مدالیلها ، وإلیک ما یناسب هنا :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 244 منها : مرسلة معاویة بن عمّار عن أبی جعفر علیه السلام بعدما سأله عن الجبن .
فأجاب علیه السلام : «ساُخبرک عن الجبن وغیره : کلّ شیء فیه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام ، فتدعه بعینه» .
وقریب منها روایـة عبدالله بـن سلیمان . ولا یخفی ظهورها فی الشبهـة غیـر المحصورة .
ویؤیّده ـ بل یشهد علیه ـ روایة أبی الجارود قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن فقلت : أخبرنی من رأی أنّه یجعل فیه المیتة . فقال : «أمن أجل مکان واحد یجعل فیه المیتة حرم ما فی جمیع الأرضین ؟ ! إذا علمت أنّه میتة فلا تأکل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وکل ، والله إنّی لاعترض السوق فاشتری بها اللحم والجبن ، والله ما أظنّ کلّهم یسمّون هذه البربر وهذه السودان» .
وأورد علی الاستدلال بها الشیخ الأعظم : بإبداء الاحتمال بأنّ جعل المیتـة فی الجبن فی مکان واحد لا یوجب الاجتناب عن جبن غیره الذی هو مشکوک بدوی ، وبأنّ المراد من قوله : «ما أظنّ کلّهم یسمّون» عدم وجوب الظنّ أو القطع بالتسمیة والحلّیة ، بل یکفی أخذها من سوق المسلمین ، بناءً علی أنّ السوق أمارة شرعیة للحلّ ؛ ولو اُخذ مـن یـد مجهول الحال . إلاّ أن یقال : إنّ سـوق المسلمین غیر معتبر مع العلم الإجمالی ، فلا مسوّغ للارتکاب غیر کون الشبهة غیر محصورة ، ثمّ أمر بالتأمّل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 245 وأنت خبیر بضعف ما أورده ؛ لأنّ حملها علی الشبهة البدویة بعید عن مساقها ؛ إذ هی کالنصّ فی العلم الإجمالی ؛ خصوصاً مع ملاحظة ذیلها . ومعلوم أنّ ذیلها لیس أجنبیاً عن الصدر .
وما احتمله فی معنی قوله علیه السلام : «ما أظنّ . . .» إلی آخره بعید ؛ لأنّ قوله هذا ظاهر فی حصول القطع بعدم التسمیة ؛ لکون الطائفتین لیستا من الطوائف الإسلامیة .
وعلی أیّ حال : فدلالة المرسلة لا غبار علیها ، لولا ضعفها سنداً . ومثلها روایة عبدالله بن سلیمان ، وفیها احتمال التقیة ؛ لکون المیتة عبارة عن الإنفحة ، وهی طاهرة بإجماع الطائفة ، وقد أوضحنا حالها فی محلّه .
ومنها : موثّقة سماعة عن أبی عبدالله فی بعض عمّال بنی اُمیّة ، وفیها : «إن کان خلط الحرام حلالاً فاختلطا جمیعاً فلم یعرف الحرام من الحلال فلا بأس» ، ولا یبعد حملها علی غیر المحصورة .
ومنها : صحیحة الحلبی : «لو أنّ رجلاً ورث من أبیه مالاً ، وقد عرف أنّ فی ذلک المال رباً ، ولکن قد اختلط فی التجارة بغیره حلالاً کان حلالاً طیّباً ، فلیأکله ، وإن عرف منه شیئاً معزولاً أنّه رباً فلیأخذ رأس ماله ولیرد الربا» .
ومنها : صحیحة اُخری له .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 246 وغیرها من الروایات التی قد جمع بعضها السیّد الفقیه الیزدی فی «حاشیته علی المکاسب» عند البحث عن جوائز السلطان .
ولا یبعد کون مورد أکثرها من قبیل الشبهة غیر المحصورة ، وفی مقابلها روایات اُخر محمولة علی المحصورة ، کروایات التخمیس ؛ فإنّها محمولة علی ما جهل المقدار واحتمل کون الحرام مقدار الخمس والزیادة والنقیصة . وأمّا لو علم أنّ فی ماله الذی بلغ خمسین ألف دینار دیناراً من الحرام فلا إشکال فی عدم وجوب الخمس .
وبالجملة : دلالة الروایات علی الشبهة غیر المحصورة واضحة . نعم یخرج منها بعض الموارد ، کما لو عرف صاحب المال ، فیجب له التخلّص من ماله ، وتفصیل الکلام فی باقی الأقسام فی محلّه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 247